مؤتمر ميونخ: خارطة الأمن العالمي عند مفترق طرق – مصدر24

مؤتمر ميونخ: خارطة الأمن العالمي عند مفترق طرق

ينعقد مؤتمر ميونخ للأمن في نسخة هذا العام وسط تحديات دولية كثيرة، وتناقضات في المواقف وحلول غامضة، بسبب الأجندات المختلفة لمصالح القوى الكبرى، التي لا تزال تفرض نفسها، رغم الإقرار بتراجع دور الولايات المتحدة كقوة فاعلة على الساحة الدولية في أعقاب محاولة إلقاء العبء على حلف الناتو في عهد دونالد ترامب. ومع ذلك تبدو مسألة إعادة تشكيل خارطة الأمن العالمي قضية شائكة لا يمكن اختزالها في صراعات بين الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين من جهة، وبين روسيا والصين وحلفائهما من جهة أخرى.

ميونخ (ألمانيا)- تحولت قاعات مؤتمر ميونخ للأمن خلال السنوات الماضية إلى ساحة صراع وتبادل اتهامات، ودبلوماسية شعبوية رسمت ملامح نظام عالمي تلاشت معه صورة القوى الكبرى، وهي مجتمعة على طاولة حوار واحدة في ظل سياسات تم اتخاذها كمحرك أساسي لدفاعاتها بوجه الأخطار المحدقة.

لكن دورة هذا العام، التي تعقد عبر تقنية الفيديو كونفيرنس بسبب الأزمة الصحية، تأتي في سياق عالمي مختلف، في ظل خلافات عميقة بين حتى الحلفاء غذتها محاولات بعض الأطراف إلى تعزيز النفوذ في مناطق استراتيجية حساسة مع تزايد الجنوح إلى تطوير الترسانات العسكرية والنووية.

ويعتقد المراقبون أن الدورة الـ57 من المؤتمر، التي تنعقد الجمعة، بعنوان “ما وراء الغرب: تجديد التعاون عبر الأطلسي، مواجهة التحديات العالمية” ستوضح ما إذا كان النظام العالمي سيعود إلى طبيعته مع وصول إدارة أميركية جديدة، أم أن القوى الكبرى سترسخ معالم مختلفة، والتي لخصتها في بعض الأحيان الدبلوماسية لحل الخلافات المعقدة.

فترة حساسة

فولفغانغ إيشينغر: المؤتمر ليس ملعبا، بل يحتم اعتماد سياسات أمنية واضحة

مؤتمر ميونخ يعتبر من أبرز الاجتماعات الدولية، التي تعقد منذ العام 1963 في مجال الأمن لمناقشة القضايا الجيوسياسية وأيضا مخاطر الإرهاب العابر للحدود، ولكن العالم اليوم يواجه فترة حساسة ولحظة فارقة في مسار تشكيل النظام الدولي الجديد، الذي سيحدد مدى تعامل القوى العظمى مع المتغيرات التي فرضت نفسها على الساحة الدولية.

وأوضح المؤتمر على منصته الإلكترونية أن اجتماع هذا العام سيضم بعضا من “أبرز صناع القرار على مستوى العالم، ليبحثوا كيفية إعادة بناء التحالف عبر الأطلسي وتجديده، ويحددوا المجالات التي تشتد الحاجة فيها للتعاون عبر الأطلسي والتعاون الدولي”.

وتحمل عبارات رئيس المؤتمر فولفغانغ إيشينغر، التي يقول فيها إن “مؤتمر ميونخ للأمن ليس ملعبا فحسب، بل يجب عليه بالأحرى توفير فرصة لمعرفة ما تم إنجازه وما لا يزال يتعين القيام به في ما يتعلق بالأمن”، الكثير من التفاؤل، لكنه في الواقع لا يعطي الصورة الحقيقة، التي من المفترض أن تنبى عليه مساعي معالجة القضايا الأمنية الملحة.

ويتزامن انعقاد المؤتمر في ظل توتر غير مسبوق بين الشرق والغرب على خلفية العديد من القضايا التي طغى عليها تمدد التنظيمات الإرهابية، مثل داعش في أفريقيا، ومن يدور في فلكها من الجماعات التكفيرية الأخرى في سوريا وليبيا واليمن والعراق وأفغانستان وباكستان والقرن الأفريقي ودول الساحل والصحراء.

وقد تهيمن قضايا المنطقة العربية وعلى رأسها الوضع في سوريا وليبيا على فعاليات المؤتمر، حيث يشارك في المؤتمر قادة دول ورؤساء حكومات ومسؤولون رفيعو المستوى من كل أنحاء العالم في مقدمتهم الرئيس الأميركي جو بايدن، لكن اللافت أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أعلن عن عدم مشاركته في القمة، ما يزيد الغموض حول نجاحها.

وفي الوقت الراهن، هناك ثلاث قوى بارزة هي الولايات المتحدة وروسيا والصين تخوض منافسة في الشرق الأوسط. ولقد أدّت التداعيات الناتجة عن الانتفاضات العربية وتراجع النظام العالمي، الذي نشأ في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، وتزايد المنافسة العالمية بين القوى العظمى، إلى تأجيج هذه المنافسة الإقليمية مجددا.

مؤتمر ميونخ للأمن

• تأسس في عام 1963 كاجتماع ألماني أميركي لتبادل المعلومات حول القضايا الأمنية

• مهمة المؤتمر التباحث بشأن التحديات الحالية والمستقبلية للسياسة الأمنية الدولية

• يجتمع قادة الدول وصناع القرار في مجالات السياسة والدفاع في فبراير من كل عام

ويشير العارفون بكواليس مثل هذه المؤتمرات الأمنية الدولية إلى أنه من غير المؤكد أن يتوصل المجتمعون بعد مناقشاتهم وحواراتهم المضنية إلى نتائج عملية ملموسة، فواقع الحال يشير إلى أنه على الرغم من اتفاق الجميع على خفض نزعة الصراعات في مناطق التوتر، وكذلك مكافحة الإرهاب وملاحقة الجهاديين، لكن الاختلافات في الاستراتيجيات هي السبب الرئيس الذي قد يبقي الأمور على ما هي عليه.

ويبدو أن مسألة العلاقة بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ضمن حلف شمال الأطلسي (ناتو)، التي تراجعت في عهد ترامب ستكون حاضرة بقوة في مناقشات المؤتمر، لمواجهة استراتيجيات روسيا والصين في نقاط التماس بين المعسكرين الغربي والشرقي. وقالت ناتالي توتشي، مدير مركز آي.أي.آي البحثي في إيطاليا الشهر الماضي، إن “العلاقة الحالية على جانبي الأطلسي كارثية حقا، ولا أعرف وصفا آخر أطلقه عليها”.

ولا تعدّ الاضطرابات، التي تشهدها العلاقات الأميركية الأوروبية أمرا جديدا، حيث استضافت المؤتمرات السابقة نقاشات واسعة حول غزو العراق، الذي شنته إدارة جورج بوش الابن مطلع 2003، لكن، تتجاوز مستويات التوتر الحالية، تلك المسجّلة في السنوات الأربع الماضية، إذ تنبع عن مجموعة واسعة من القضايا.

وانسحب ترامب، من جانب واحد، من الاتفاقيات الدولية التي يدعمها الاتحاد الأوروبي، مثل اتفاق باريس للمناخ والاتفاق النووي الذي أبرمته إيران والقوى العالمية، كما انسحب من منظمة الصحة العالمية، في خضم جائحة كورونا، وآثار الشكوك بشأن حلف شمال الأطلسي (ناتو).

كما فاجأ الرئيس الأميركي السابق الاتحاد الأوروبي بانسحابه من معاهدات الحد من التسلح مع روسيا، وأيضا بخطواته الأحادية في منطقة الشرق الأوسط، مثل سحب القوات الأميركية من سوريا، ونقل سفارة بلاده من تل أبيب إلى القدس.

لكن بايدن أظهر نفسه على أنه أكثر مراعاة وتقديرا للحساسيات الأوروبية، فقد كان رئيسا سابقا للجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ الأميركي، ونائبا للرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما على مدار ولايتين، ويملك خبرة تمتد عقودا في مجال السياسة الخارجية.

وفي خطوات حظيت بترحيب أوروبي، تعهد بايدن بالتزامات جديدة من جانب الولايات المتحدة إزاء حلف الناتو والعودة إلى نهج التعددية والرغبة في إعادة فتح باب المفاوضات مع إيران، والانخراط مجددا مع الفلسطينيين، بالإضافة إلى العودة إلى اتفاق باريس بشأن المناخ. ولكن المحللين في أوروبا لا يتوقعون مع ذلك أن تسير كل الأمور على ما يرام.

إعادة التوازن

خلافات عميقة غذتها محاولات بعض الأطراف إلى تعزيز النفوذ في مناطق استراتيجية حساسة مع تزايد الجنوح إلى تطوير الترسانات العسكرية والنووية
خلافات عميقة غذتها محاولات بعض الأطراف إلى تعزيز النفوذ في مناطق استراتيجية حساسة مع تزايد الجنوح إلى تطوير الترسانات العسكرية والنووية

يمر العالم اليوم بفترة بالغة الخطورة بظهور حرب جديدة مختلفة عن الحروب التقليدية، حيث باتت تؤرق العديد من الدول، فقد تعرضت ألمانيا وفرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة إلى هجمات إلكترونية، وتتهم تلك الدول روسيا والصين بالوقوف وراءها، مما يفرض إعادة التوازن للمشهد العالمي المليء بالتناقضات.

وخلال السنوات الماضية، سعت موسكو وبكين إلى تشكيل تحالف إقليمي ليكون صدا في وجه الاختراقات الأميركية خاصّة في المناطق التي كانت واقعة تحت سيطرة الاتحاد السوفييتي سابقا، والتي فرط عقدها إثر انهياره وقد عمدت الدولتان إلى تأسيس بعض المنظّمات الإقليمية وتفعيل البعض الآخر لهذا الغرض.

وبالنسبة إلى إيران، فإن الصين وروسيا، وهما اللتان تصعدان في الجغرافيا السياسية العالمية وتخوضان حربا باردة متجددة مع الغرب، لديهما نفس المواقف. ومن هنا يمكن القول إن هناك أرضية لتقارب وثيق تسعى من خلاله طهران إلى تحدي الولايات المتحدة وخاصة في ما يتعلق ببرنامجها النووي المثير للجدل.

وسبق وأن حثّ المحللون والخبراء ومراكز صنع القرار في الولايات المتحدة إدارة بايدن على استعادة واشنطن دورها على الساحة الدولية وخاصة في ما يتعلق بالأسلحة النووية لتقليل مخاطر استخدامها من طرف بعض القوى مثل إيران وكوريا الشمالية، وأيضا قطع الطريق أمام وصول بعض المواد الانشطارية المستخدمة في هذه المجال إلى أيدي الجماعات المتطرفة.

مسألة العلاقة بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ضمن حلف شمال الأطلسي ستكون حاضرة بقوة في مناقشات المؤتمر لمواجهة استراتيجيات روسيا والصين

وقال مجموعة من الخبراء الأسبوع الماضي في رسالة إلى نحو ستة مسؤولين في وزارة الخارجية ووزارة الطاقة ومجلس الأمن القومي إن “الأمن العالمي بخصوص مواد مثل البلوتونيوم واليورانيوم عالي التخصيب يؤكد أنها تلقت اهتماما محدودا من الدوائر رفيعة المستوى في إدارة ترامب”.

ويشكل التوتر الغربي المتزايد مع الحليف التركي موضوعا خلافيا آخر، ويترقب الأوروبيون أن يُتخذ قرار بشأنه مع بايدن خلال القمة، التي ستأتي بعد يومين من اجتماع لحلف الناتو، خاصة وأن التقارب العسكري بين أنقرة وموسكو والذي توج بحصولها على منظومة أس-400 يشكل نقطة سجال قد تؤدي إلى خلافات أعمق في المستقبل.

'