ما الذي صنع من غورباتشوف، غورباتشوف – مصدر24

ما الذي صنع من غورباتشوف، غورباتشوف

الحرب في أفغانستان، والحرب في أوكرانيا، زاويتان تسيطران على النظر في الإرث الذي خلفه ميخائيل غورباتشوف. هاتان الزاويتان تحصران زمنا يبلغ 43 عاما بين “بداية النهاية” للإمبراطورية السوفياتية، و”بداية البداية” لعودتها. ولكنّ ثمة عاملين آخرين لا يمكن تجاهلهما في الحكم على هذا الزمن: الاقتصاد والحريات.

الإمبراطورية السوفياتية، كانت في أوج استقرارها في عهد ليونيد بريجنيف الذي تولى السلطة في العام 1964 حتى وفاته في العام 1982.

هذا الزعيم، الأوكراني الأصل، كان الوحيد الذي ورث دولة عظمى قوية ومستقرة وفخورة بنموذجها الاقتصادي وقادرة على النظر إلى المستقبل من دون اضطرابات نفسية أو رهاب من الغرب، ولا تقلقها حربه الباردة، وقادرة على أن تتوسع، وأن تخوض حروبا بالوكالة ضد الولايات المتحدة.

بريجنيف كان عهدا فاصلا بين الثورة والدولة. بين فلاديمير إليتش لينين وجوزيف ستالين عرفت الثورة البلشفية منقلبين، الأول تحرري (بالمعنى الاقتصادي)، والثاني استبدادي (بالمعنى السياسي). ونيكيتا خروتشوف كان آخر الثورة، والى حد ما كان مصدر سخرية من مفارقاتها.

 

 معركة الحريات في روسيا نفسها فجرت التمردات داخل الحزب الشيوعي، وكانت بمثابة اعتراف داخلي، من جانب القاعدة السياسية للسلطة، بأن هذا الحزب لم يعد قادرا على مواكبة مطالب الحريات

القوة العظمى التي تجسدت في سلطة بريجنيف بدأت بالانهيار من أطرافها. حرب أفغانستان شكلت أول معالم الانهيار. في ديسمبر 1979 أرسل بريجنيف جيشه الأحمر إلى أفغانستان لنجدة الحكم الشيوعي فيها، لتبدأ حرب استنزاف انكشفت خلالها كل مكامن الضعف العسكري، والترهل السياسي، والعجز الاقتصادي للاتحاد السوفياتي، وهو ما لم يظهر بجلاء إلا بعد أن بلغ السيل الزبى، أي بعد رحيل بريجنيف الذي كانت سلطته بمثابة غطاء على قِدْر بدأت تغلي.

في لحظة من اللحظات، بدا أن القيادة السوفياتية العجوز هي السبب. وكان غورباتشوف مبعث أمل من زاوية أنه واحد من أصغر تلك القيادة سنا.

كانت الحرب في أفغانستان في أوجها عندما تولى غورباتشوف السلطة في العام 1985. ولكنها كحرب استنزاف عسكرية لم تكن أثقل من عجز الاقتصاد السوفياتي عن حمل أعباء إمبراطورية خسرت سباق النمو، كما خسر نموذجها القائم على الكفاية، أمام الثورة الاستهلاكية التي أعقبت الثورة الصناعية في الغرب، وخسرت سباق التسلح نفسه بتكنولوجيا ما تزال روسيا تفتقر إليها إلى اليوم.

أما الحريات، فكانت معضلة أشد. النموذج الاشتراكي لم يكن فاشلا بمستوى الفشل الذي تأسس على الجمود العقائدي والتشدد في اقتفاء أثر النصوص النظرية للماركسية اللينينية، والعداء المطلق لكل رأي آخر خشية أن تتسلل منه “الأفكار البرجوازية”، وهي العدوى التي أصابت كل الأحزاب الشيوعية في العالم حتى تحولت إلى حطب لا يليق إلا بالحرق في مدافئ الشتاء الفكري القارس.

طلب الحرية الذي نشأ تحت مظلة الإمبراطورية السوفياتية، بتنفس الصعداء من القضاء على إرث الاستبداد الستاليني، سرعان ما تحول إلى معركة حقيقية تستدعي استخدام الدبابات ضد “الثورة المجرية” في العام 1956، وضد “ربيع براغ” في العام 1968، وضد إعلان الاستقلال في ليتوانيا في العام 1991، قبل تسعة أشهر من انهيار الاتحاد السوفياتي وسقوط غورباتشوف نفسه.

 

 الإمبراطورية السوفياتية، كانت في أوج استقرارها في عهد ليونيد بريجنيف الذي تولى السلطة في العام 1964 حتى وفاته في العام 1982

معركة الحريات في روسيا نفسها فجرت التمردات داخل الحزب الشيوعي، وكانت بمثابة اعتراف داخلي، من جانب القاعدة السياسية للسلطة، بأن هذا الحزب لم يعد قادرا على مواكبة مطالب الحريات.

البيروسترويكا، أو إعادة الهيكلة الاقتصادية، كانت هي جواب غورباتشوف على فشل نموذج الكفاية الاشتراكي. كما كانت “غلاسنوست” (الشفافية) هي جوابه على معضلة الحريات.

إمبراطورية في أزمة، أمر يعني أنها في حاجة إلى إعادة النظر في أوضاعها الداخلية وفي علاقاتها مع العالم.

غورباتشوف، فشل في الجانب الأول، ونجح في الثاني، إلى درجة أنه أعاد صياغة التاريخ والخرائط والتوازنات دفعة واحدة.

الأول، كان هو سبب عدم الاحتفال به في روسيا، حتى أنه عندما أراد منافسة بوريس يلتسين على الرئاسة في روسيا، حصل على أقل من 1 في المئة من الأصوات. وكانت تجربة خوضه الانتخابات تعبيرا مطلقا عن سوء التقدير لموقفه الداخلي.

ولكن الثاني، كان هو سبب الاحتفال به في الغرب، الذي نال به جائزة نوبل للسلام عام 1990.

الغربيون يضعون اليوم نوعا من هالة تقديس على غورباتشوف، ليس لأنه قضى على إمبراطورية عظمى كانت سائرة في طريق الانهيار أصلا، وإنما لأنه فتح أبوابا لعلاقات سياسية وإستراتيجية من نوع آخر. وهي ما تجسد بسلسلة من المعاهدات للحد من الانتشار النووي وخفض الأسلحة الإستراتيجية والسماح بإعادة توحيد ألمانيا والقبول باستقلال الدول السوفياتية السابقة. وهو استقلال كان مدفوعا بعوامل تتعلق بمطالب الحرية، وليس لأن الولايات المتحدة أرسلت جيوشها للتحريض عليه.

هذا الجانب هو ما صنع من غورباتشوف، غورباتشوف بين أولئك الذين لطالما اعتبروا روسيا عدوا أيديولوجيا وخصما إستراتيجيا ومنافسا سياسيا.

أين يمكن أن تضع فلاديمير بوتين في هذا الخضمّ؟

الحرب في أوكرانيا، أعادت تقديم الخصم الإستراتيجي. أحيت في الوقت نفسه تطلعات أمة لطالما نظرت إلى نفسها كقوة عظمى. بعض الأسئلة تتم الإجابة عنها الآن بطريقة مختلفة.

“الحركة الأوراسية” التي يقودها وينظر لها ألكسندر دوغين، صاحب التأثير الأكبر على بوتين، تزعم أنها بديل رابع، لليبرالية والشيوعية والفاشية. ولكنها مشروع لإعادة بناء الإمبراطورية الروسية على أساس أن هناك صراعا “جيوبوليتيكيا” بينها وبين ثقافة العالم الغربي.

على هذا الأساس اعتبر دوغين أوكرانيا كدولة “ليس لها معنى جيوسياسي”، وأن حرب بلاده فيها “هي حرب على الدمى الغربية التي تحاول السيطرة على العالم، وعلى النازيين الجدد الذين انقلبوا على إرادة الشعب الأوكراني في 2014”.

وهذا هو بالضبط، التفسير الذي يقود الحرب الروسية في أوكرانيا. إنها حرب “استعادة نفوذ جغرافي” ضد كيان لا معنى له، كما أنها حرب ضد القيم الغربية لصالح أن تكون لكل أطراف “المشروع الأوراسي” قيمه الخاصة به، بشرط ألا تأخذ بقيم الليبرالية الغربية.

 

 القوة العظمى التي تجسدت في سلطة بريجنيف بدأت بالانهيار من أطرافها. حرب أفغانستان شكلت أول معالم الانهيار

الاقتصاد ليس اشتراكيا، ولكنه ليس رأسماليا أيضا. إنه نمط جديد من أنماط “رأسمالية الدولة” الخاضعة لسيطرة مُدبّر واحد، تحيط به مجموعة من الإداريين والأولغاريشيا الذين تقوم العلاقة بينهم وبين الدولة على الولاء المطلق للمدبر.

بوتين، انطلاقا من هذه الأسس، هو “بطرس كبير” آخر. يستعين بقوة اقتصادية (قائمة على الريع النفطي)، وقوة عسكرية تجرؤ على تحريك جيشها والتلويح بقوتها النووية، ويسعى لبناء نفوذ دولي “يحترم خصوصيات القيم الحضارية لكل مجتمع” (المقصود بالدرجة الأولى أنماط قيادته السياسية). أي أنه يستطيع التعايش مع الصين والهند كما يتعايش مع “الحضارة السورية” التي يمثلها بشار الأسد، والتي اعتبرها دوغين “خطنا الخارجي للدفاع عن الاتحاد الأوراسي”، أي بالضبط مثلما تعتبرها إيران خطها الخارجي للدفاع عن الثورة الإسلامية.

أما العدو الوحيد فهو الحلف الأطلسي، لأنه القوة العسكرية المانعة لعودة الإمبراطورية الروسية، السوفياتية، أو “الأوراسية”.

تطلعات القوة العظمى، ليست مشكلة من ناحية الأسئلة التي يجيب عنها دوغين أو بوتين. ولكنها مشكلة من ناحية الأسئلة التي لا تجيب عنها: الاقتصاد والحريات.

إنها هي ذاتها المشكلة التي أسقطت إمبراطورية بطرس الأكبر، والاتحاد السوفياتي، وغورباتشوف.

'