محسن فخري زادة عالم نووي أم سليماني آخر؟ – مصدر24

محسن فخري زادة عالم نووي أم سليماني آخر؟

يقال عادة “تعدّدت الأسباب والموتُ واحد”، وفي الحالة التي بين أيدينا يمكن القول “تعدّدت الألقاب والموتُ واحد”، فقد حمل الإيراني محسن فخري زادة مهاباداي الذي يشغل اغتياله العالم هذه الأيام، العديد من الألقاب، منها على سبيل المثال وليس الحصر “أبوالقنبلة النووية الإيرانية” وهو الوصف الذي جاء على لسان دبلوماسي غربي، وكذلك لقب “الصندوق الأسود” وأيضا “ضابط الجيش” إلى جانب “القائد في الحرس الثوري الإيراني” وأخيرا “العالم النووي” المعروف بعبدالقدير خان الإيراني.

ترأس فخري زادة مركز الأبحاث والتكنولوجيا في وزارة الدفاع الإيرانية، وكان العقل المدبر لبرنامج سري لقنبلة نووية، ناهيك عن كونه رئيس الفريق الذي تمكن من صناعة أجهزة تشخيص فايروس كورونا في إيران وتصديره إلى الخارج، بحسب ما جاء على لسان وزير الدفاع الإيراني أمير خاتمي.

وبعد ظهر يوم الجمعة الماضي لقي فخري زادة حتفه، ولم تعلن أي جهة مسؤوليتها عن العملية، على عكس ما حصل لحظة قتل صديقه وزميله في الحرس الثوري الإيراني قائد فيلق القدس اللواء قاسم سليماني، حيث خرج الرئيس الأميركي دونالد ترامب متبنيا وبشكل مباشر وواضح وعلى الملأ مقتل سليماني.

وقد وقعت العملية أثناء عودته من زيارة في ضواحي طهران بحسب وسائل إعلام إيرانية، التي أوردت تفاصيل عن العملية، حيث راجت قصص عن فرق على دراجات نارية وتفجيرات وأن سيارة القائد في الحرس الثوري الإيراني تعرضت لإطلاق نار من راكبي دراجات نارية، بينما الصورة الأشبه هي مشهد من فيلم «ابن آوى» الذي عرض عام 1997 وقدم فيه الممثل بروس ويليس فكرة التصفية بمدفع رشاش يتم التحكم به عن بعد. أدت الحادثة إلى إصابة فخري زادة بجروح نقل على إثرها إلى المستشفى ولم يتمكن الأطباء فيها من إنعاشه، وتأتي هذه العملية لتشكل الضربة الموجعة الثانية التي تتلقاها طهران في غضون أقل من سنة بعد مقتل سليماني لحظة خروجه من مطار بغداد الدولي عائدا من دمشق مطلع العام الحالي، في غارة جوية أميركية نفذتها طائرة مسيّرة.

حياة في العتمة

تحذير بنيامين نتنياهو المبكر من دور فخري زادة في عام 2018، يعود إلى الواجهة اليوم، وذلك حين بث التلفزيون عرضاً قال فيه رئيس الوزراء الإسرائيلي حينها “تذكروا ذلك الاسم، فخري زادة”
تحذير بنيامين نتنياهو المبكر من دور فخري زادة في عام 2018، يعود إلى الواجهة اليوم، وذلك حين بث التلفزيون عرضاً قال فيه رئيس الوزراء الإسرائيلي حينها “تذكروا ذلك الاسم، فخري زادة”

أمين مجلس الأمن القومي الإيراني، علي شمخاني، اتهم الموساد الإسرائيلي باغتيال العالم النووي الإيراني فخري زادة، عبر استخدام عناصر من منظمة مجاهدي خلق، وأضاف إن “اغتيال فخري زادة تم بطرق وآليات معقدة جدا، وباستخدام أسلحة آلية، ولم يكن هناك أي شخص مهاجم في مكان الاغتيال»، حيث تبيّن بالفعل أن العربة التي نفّذت العملية كان فيها رشاش آلي يعمل عن بُعد، ثم قام بعدها بتفجير نفسه، وكشف شمخاني أن الإيرانيين توصلوا إلى معلومات أولية حول مرتكبي الجريمة، وأنهم كانوا يعرفون مسبقاً من هو المسؤول عنها.

تصريحات شمخاني زادت الغموض بدل أن تجليه، فكيف يعرف الإيرانيون مسبقا بالفاعل دون أن يحاولوا منع وقوع الاغتيال؟ تبدو تلك التصريحات محاولة لإعادة الاعتبار لأجهزة الأمن الإيرانية أكثر منها تصريحات مسؤولة، فقد سبق لشمخاني أن قال بعد الاغتيال إن “الأجهزة الأمنية الإيرانية كانت على علم باحتمال تعرض العالم فخري
زادة لمحاولة الاغتيال في ذات الموقع الذي اغتيل فيه”، مشيرا إلى أنها “لم تأخذ الأمر على محمل الجد، بسبب تواتر الأنباء لديها طيلة السنوات العشرين الماضية عن مخططات لاغتياله“.

البعض يذهب في اتجاه مغاير في التأويل، بعيدا عن إسرائيل والولايات المتحدة، موجها أصابع الاتهام إلى النظام الإيراني نفسه، أو على الأقل 
إلى أطراف من داخله

تشير تقارير استخباراتية إلى أن فخري زادة عاش في الخفاء محاطا بإجراءات أمنية مشددة، ومنعت السلطات الإيرانية بمقابلة محققي الأمم المتحدة له، لاسيما إثر عمليات الاغتيال التي طالت خمسة علماء نوويين إيرانيين بين عامي 2010 و2012، وكان قد لعب دورا محوريا في أنشطة يعتقد أن بلاده قامت بها خلال السنوات السابقة لتصنيع رؤوس نووية وراء ستار برنامج مدني معلن لتخصيب اليورانيوم، ما جعله موضوع متابعة من مجموعة استخبارات دولية وضعته تحت المراقبة وتعقبت تحركاته كونها اعتبرته العقل المدبر لجهود إيران السرية تلك.

وعلى الرغم من نفي إيران لمشاركة فخري زادة في هكذا أنشطة، إلا أن الوكالة الدولية للطاقة الذرية التابعة لمنظمة الأمم المتحدة والعديد من الاستخبارات العالمية كان لها رأي مغاير، بحيث جزمت مشاركة  فخري زادة في تلك المساعي التي يعتقد أنها توقفت في العام 2003. فقد وصفته الوكالة في العام 2011  بأنه المدير التنفيذي لما عرف آنذاك بخطة “أماد” والتي تعني ”الأمل“ بالعربية، وهي الركيزة الأساسية التي يستند عليها برنامج إيران السري للأسلحة النووية، معتبرة إياه شخصية مركزية في مختلف الأنشطة الإيرانية الساعية لتطوير تكنولوجيا تسمح بصناعة قنبلة نووية، وتعتقد الوكالة أن هذه الأنشطة لا تزال قائمة حتى اليوم.

ولد فخري زادة عام 1958 في مدينة قم، وحصل على درجة البكالوريوس في الفيزياء النووية من جامعة شهيد بهشتي ثم على الماجستير والدكتوراه من جامعة أصفهان في الإشعاع النووي والأشعة الكونية. في نهاية السبعينيات التحق بالحرس الثوري، وشغل مناصب عدة ترقى خلالها حتى وصل إلى منصب نائب وزير دفاع، ووصل كذلك إلى رتبة ”عميد“.

قناع العالِم

عملية اغتيال فخري زادة تشكل الضربة الموجعة الثانية التي تتلقاها طهران في غضون أقل من سنة، بعد مقتل سليماني لحظة خروجه من مطار بغداد الدولي عائدا من دمشق مطلع العام الحالي، في غارة جوية أميركية
عملية اغتيال فخري زادة تشكل الضربة الموجعة الثانية التي تتلقاها طهران في غضون أقل من سنة، بعد مقتل سليماني لحظة خروجه من مطار بغداد الدولي عائدا من دمشق مطلع العام الحالي

وخلال عمله في سلك التدريس الجامعي في جامعة الإمام الحسين ألقى فخري زادة آلاف المحاضرات، لكن تقارير المخابرات المركزية الأميركية في عهد الرئيس جورج بوش الابن زعمت أن منصبه الأكاديمي كان مجرّد غطاء يخفي خلفه دوره في النظام الإيراني. وبدءاً من العام 2010 قاد فخري زادة مبادرة أطلق عليها اسم “مركز الدراسات البيولوجية”. وقال تقرير للمجلس الوطني للمقاومة الإيرانية المعارض إن فخري زادة حمل ثلاثة جوازات سفر مختلفة، وسافر بها إلى دول في آسيا للحصول على أحدث التقنيات والمعلومات في مجال التطوير التكنولوجي، وزاد التقرير أن الرجل تمتع، طيلة الوقت، بثقة خاصة من المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية الإيرانية علي خامنئي.

ولم تفت رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الإشارة إلى فخري زادة في عام 2018، وذلك في عرض بثه التلفزيون الرسمي الإسرائيلي، اتهمه أنه من يقود النشاط السري للبرنامج النووي الإيراني تحت ستار برنامج مدني، بعد أن تمكن عملاء إسرائيل كما ذكر نتنياهو من العثور على كميات كبيرة من الوثائق من موقع نووي في طهران، حينها قال نتنياهو “تذكروا ذلك الاسم، فخري زادة”.

تأتي هذه العملية لتشكل الضربة الموجعة الثانية التي تتلقاها طهران في غضون أقل من سنة بعد مقتل سليماني لحظة خروجه من مطار بغداد الدولي عائدا من دمشق مطلع العام الحالي، في غارة جوية أميركية نفذتها طائرة مسيّرة

 تقول أندريا سترايكر الباحثة المتخصصة في الأسلحة النووية بمركز الدفاع عن الديمقراطيات ”إن اغتيال فخري زادة يعد خطوة نفسية ورسالة لطهران بأن جواهر تاج ببرنامجها النووي ليست آمنة”، مشيرة إلى أن تلك العملية هدفت للقضاء على المعرفة المؤسسية الرئيسية ببرنامج الأسلحة النووية الإيراني السابق وأنشطة البحث والتطوير المستمرة في إطار برنامج “سبند” الذي كان يقوده، ومع ذلك لا ترى سترايكر أن ذلك سيمنع إيران من جعلها تتابع سعيها لإعادة الولايات المتحدة إلى الاتفاق النووي تحت قيادة الرئيس المنتخب جو بايدن.

وبدأت تقارير المحللين الاستراتيجيين والعسكريين فور حدوث عملية الاغتيال تتخوف من مواجهة ما بين إيران من جهة والقوى الدولية من جهة ثانية وعلى رأسها الولايات المتحدة، ما سيؤدي لتفجر الأوضاع في منطقة الإقليم برمته، الأمر الذي قد يعقد من الجهود التي سيبذلها بايدن بهدف إحياء الاتفاق الذي كان عقد خلال فترة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما.

لغز الاغتيال

قصص عديدة راجت عن الاغتيال، بينما الصورة الأقرب شبيهة بالفكرة التي قدّمها بروس ويليس في فيلم «ابن آوى» عن التصفية بمدفع رشاش يتم التحكم به عن بعد
قصص عديدة راجت عن الاغتيال، بينما الصورة الأقرب شبيهة بالفكرة التي قدّمها بروس ويليس في فيلم «ابن آوى» عن التصفية بمدفع رشاش يتم التحكم به عن بعد

في الحقيقة يصعب التكهن بالجهة التي أقدمت على تنفيذ عملية اغتيال فخري زادة، أو الإجابة على سؤال من هي الجهة صاحبة المصلحة في هذه العملية؟ وإن كانت إيران، ومن يدور في فلكها، وجهت أصابع الاتهام إلى إسرائيل، على الفور، محملة إياها المسؤولية، ومهددة برد قاس، بحسب ما جاء على لسان كبار المسؤولين بمن فيهم الرئيس حسن روحاني والمرشد الأعلى خامنئي. بالمقابل تعلو أصوات تشير إلى ضلوع الولايات المتحدة في العملية، على خلفية كونها صاحبة المصلحة الأولى في تغييب هكذا شخصية، وما يشكله هذا التغييب من ضرر لإيران وملفها النووي، ومع ذلك ليس بإمكان أحد الجزم بأن عملاء أميركيين داخل إيران هم من نفذوا الاغتيال.

بموازاة ذلك هناك من يذهب في اتجاه مغاير لتلك الأصوات، بعيدا عن إسرائيل والولايات المتحدة، موجّها أصابع الاتهام إلى النظام الإيراني نفسه، أو على الأقل إلى أطراف من داخله، متسائلا كيف لإسرائيل وأميركا أن تطالا شخصية بمكانة ووزن فخري زادة بهذه البساطة، لو لم يكن هناك من سهل وعاون على التنفيذ؟

وتُعزز تلك الفرضية بالتساؤل هل كانت الاستخبارات الإيرانية عاجزة لهذه الدرجة عن حمايته، وهي المشهود لها بملاحقة وتصفية معارضي النظام حتى داخل أوروبا، لدرجة استطاعت مجموعة على دراجات نارية الوصول إلى فخري زادة، هل هو اختراق أم تواطؤ؟

فخري زادة حمل ثلاثة جوازات سفر مختلفة، وسافر بها إلى دول في آسيا للحصول على أحدث التقنيات والمعلومات في مجال التطوير التكنولوجي

في الحالين، نحن أمام عملية معقدة، ومع كل ما تقدم، هناك من ذهب إلى أبعد من ذلك طارحا السؤال؛ هل هي مصادفة أن تتزامن عملية اغتيال فخري زادة مع اليوم نفسه الذي تجري فيه محاكمة الدبلوماسي الإيراني أسد الله أسدي في بروكسل ببلجيكا، مع ثلاثة إيرانيين آخرين، لاتهامهم بالتخطيط لزرع قنابل في تجمع لمعارضين، قرب العاصمة الفرنسية باريس عام 2018. وهذه هي المرة الأولى التي تُحاكم فيها دولة من دول الاتحاد الأوروبي مسؤولا إيرانيا بتهم مرتبطة بـ»الإرهاب».

وكانت الجنازة التي أقيمت لفخري زادة مختصرة للغاية، بعدد محدود من القادة الإيرانيين، ودون مشاركة شعبية. وقد حضرها وزير الدفاع خاتمي الذي توعّد العالم في الكلمة التي ألقاها قائلا إن “ردنا على اغتيال فخري زادة قادم وحتمي، وسيكون عقابا قاسيا لمن ارتكب هذه الجريمة”. وحضر كذلك القائد العام للحرس الثوري ووزير المخابرات ورئيس هيئة الطاقة الذرية الإيرانية، إضافة إلى قائد فيلق القدس إسماعيل قاآني، وصلى على جثمان فخري زادة ممثل المرشد ضياء الدين آقاجان بور.رحل فخري زادة واختير له قبر قرب ضريح إمام زادة صالح شمالي طهران، إلى جانب عالمين نوويين آخرين تم اغتيالهما قبله، دفنوا ودُفنت أسرارهم معهم.

إيران

'