محكمة الحريري.. صراع إرادات بين القانون والسياسة – مصدر24

محكمة الحريري.. صراع إرادات بين القانون والسياسة

شكلت عملية محاكمة قتلة رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري مسارا قضائيا طويلا، تداخلت فيه العوامل السياسية والقانونية، وبرز بشكل جلي في أطوارها صراع إرادات بين القانون والسياسة، حيث اختلفت عن محاكم نورمبرغ وطوكيو أو تلك المحاكم التي شكلها المنتصرون لمحاكمة مجرمي الحروب. وتبحث الخبيرة في العلاقات الدولية سماء سليمان في كتاب لها كيف تداخلت الاعتبارات السياسية في المحاكمات الدولية لمجرمي الحرب.

لا يفوق تراجيديا الجريمة إلا مسار حكم قضائي يقع في 2600 صفحة، أصدرته محكمة دولية في هولندا بعد 15 عاما على اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري في الرابع عشر من فبراير 2005. صدر الحكم في 18 أغسطس 2020 بإدانة عضو بجماعة حزب الله بالتآمر على الاغتيال، وقد تأكدت للقضاة “قناعة لا يخالطها شك” بأن سالم جميل عياش كان بحوزته “واحد من ستة هواتف محمولة استخدمت في الهجوم”، كما نص قرار المحكمة التي برأت ثلاثة متهمين لعدم كفاية أدلة ضلوعهم في التفجير الذي أودى بحياة الحريري و21 آخرين وأصاب 266. 

وخضعت قضية الحريري لمحكمة خاصة مختلطة تمزج بين القوانين الوطنية والقانون الدولي الجنائي، وهي أول محكمة من نوعها في بلد عربي وفي الشرق الأوسط عموما، فضلا عن كونها تقضي في شأن يخص عملا إرهابيا. وتعاملت المحكمة مع التفجير الإرهابي كـ”قضية ضد الإنسانية”، وفقا لرؤية المؤلفة المصرية سماء سليمان في كتابها الذي يقع في 380 صفحة وأصدرته الهيئة المصرية العامة للكتاب.

وتشكلت من أجل قضية الحريري “أول محكمة من نوعها تنظر في الأعمال الإرهابية كجريمة بحد ذاتها”، كما تقول الدكتورة سماء سليمان في كتابها “محكمة لبنان.. بين العدالة والسياسة”، موضحة أن المحكمة استندت إلى القوانين الدولية والوطنية المحلية، وفي نظامها الأساسي تم وضع مكتب الدفاع عن المتهمين “على قدم المساواة مع مكتب المدعي العام”؛ لضمان تعزيز حقوق المتهمين، واحترام حقوق المشتبه بهم، وتحصينهم من الملاحقة، والسماح لهم بالعودة إلى بلادهم بعد استجوابهم.

يثير تشكيل المحاكم الدولية عموما عدة قضايا منها حساسية المساس بالسيادة الوطنية، والجدال بين الاعتبارات السياسية واستهداف تحقيق العدالة عبر ترسيخ القضاء الجنائي الدولي. وبرز صراع إرادات بين القانون والسياسة في قضية تحقق فيها محكمة دولية غير مسبوقة، وتختلف عن محاكم نورمبرغ وطوكيو أو تلك المحاكم التي شكلها المنتصرون لمحاكمة مجرمي الحروب.

مسار التحقيق الدولي

نريد نهاية للخوف
نريد نهاية للخوف

في قضية الحريري، التي اتخذت مسارا طويلا بدأ منذ أن انعقد مجلس الأمن الدولي مساء يوم اغتيال رئيس الوزراء اللبناني، 14 فبراير 2005، “بناء على رغبة أميركية وفرنسية”، وسحبت الولايات المتحدة سفيرتها في دمشق مارغريت سكوبي في اليوم التالي 15 فبراير.

وشكل مجلس الأمن لجنة تقصي الحقائق برئاسة بيتر فيتزجيرالد نائب مدير الشرطة في أيرلندا ومعه 14 شخصا منهم محققون، وخبراء متفجرات وأسلحة باليستية وحمض نووي وفحص مواقع جرائم، ومستشار قانوني، وآخر سياسي. وبدأت اللجنة عملها في 25 فبراير 2005.

وتبنى مجلس الأمن بموجب القرار رقم 1595 بتاريخ 7 أبريل 2005 توصية فيتزجيرالد بتشكيل لجنة تحقيق دولية مستقلة مقرها لبنان، وتحظى بالتعاون الكامل من قِبل السلطات اللبنانية، وتتمتع بصلاحيات تنفيذية تسمح بحرية التنقل في الأراضي اللبنانية كافة، وإجراء استجوابات وأعمال تفتيش، ومقابلة كل المسؤولين.

وطالبت بإقالة رؤساء الأجهزة الأمنية في لبنان “واعتبرت ذلك شرطا أساسيا؛ لضمان نجاح عمل اللجنة، وهو ما استجابت له السلطات اللبنانية”. وحدد قرار مجلس الأمن مهمة اللجنة بمساعدة السلطات اللبنانية في التوصل إلى مرتكبي الجريمة والشركاء والداعمين. 

“محكمة لبنان” إشكاليات قانونية وتداعيات سياسية في زمن العدالة

في مارس 2009 بدأ عمل المحكمة في لاهاي، وضمت أحد عشر قاضيا منهم أربعة لبنانيين. واقتصرت الدائرة التمهيدية للمحكمة على قاض دولي، وضمت الدائرة الابتدائية قاضيا لبنانيا وقاضيين دوليين، وتشكلت الدائرة الاستئنافية من قاضيين لبنانيين وثلاثة قضاة دوليين، مع تعيين قاضيين احتياطيين أحدهما لبناني.

وبدأت لجنة التحقيق عملها في 16 يونيو 2005 حتى 29 فبراير 2009، برئاسة قاض رصيده 25 عاما في مجال الادعاء العام، هو الألماني ديتليف ميليس. وتوالى على رئاسة اللجنة كل من ميليس والبلجيكي سيرج براميرتزا والكندي دانيال بلمار. وقدم المحققون الثلاثة إلى مجلس الأمن أحد عشر تقريرا.

وفي 30 مايو 2007 أصدر مجلس الأمن القرار رقم 1757، وهو خاص بنظام المحكمة، بناء على اتفاق بين الأمم المتحدة والحكومة اللبنانية، “وتعتمد المحكمة على قانون مختلط لبناني ودولي، حيث تحاكم المتهمين استنادا إلى القانون اللبناني الجنائي، وتطبق قانون العقوبات اللبناني باستثناء عقوبة الإعدام”.

وفي 12 يونيو 2007 قال نيكولاس ميشال المستشار القانوني للأمين العام للأمم المتحدة “إن من صلاحيات المحكمة استدعاء رؤساء جمهوريات”، ربما في إشارة إلى سوريا التي أنشأت لجنة تحقيق داخلية، وتعاونت مع لجان التحقيق، وأعلنت عدم تعاونها مع المحكمة بحجة أنها “غير شرعية”.

ونص نظام المحكمة المختلطة على التفرغ التام لرئيس المحكمة وأعضائها من أجل عدالة جنائية فعالة، وأن يلتزم رئيس المحكمة بتقديم تقرير سنوي عن أعمال المحكمة إلى كل من الأمين العام للأمم المتحدة والحكومة اللبنانية.

ولاستكمال التحقيق، اتخذ المدعي العام للمحكمة دانيال بلمار إجراءات منها إنشاء مكاتب للتحقيق، ومطالبة الحكومة بإرسال جميع المستندات المتعلقة بالقضية، “وهو ما نفذته بيروت بالفعل من خلال إعلانها نقل كافة وثائق التحقيق الدولي في الجريمة إلى لاهاي”. وأدت المحكمة إلى استقطابات وانقسامات لا يحتاج لبنان إلى المزيد منها.

واستهدفت المحكمة، كما تقول المؤلفة المصرية سماء سليمان، استكمال تحقيقات لجنة التحقيق الدولية، ووضع حد للإفلات من العقاب ومساعدة الشعب على استعادة الثقة بسيادة القانون، “في بلد استخدمت فيه الاغتيالات كتقنية من التقنيات السياسية”.

أما تمويل المحكمة فهو مزدوج، 51 في المئة تبرعات من الدول الراغبة في الإسهام، وتتحمل الحكومة اللبنانية 49 في المئة. وفي 4 سبتمبر 2007 أورد تقرير للأمين العام عن ميزانية المحكمة أنها تحتاج إلى 35 مليون دولار للعام الأول، بغض النظر عن تكاليف مبنى المقر، كما تحتاج إلى 45 مليونا في العام الثاني، و40 مليونا في العام الثالث.

وفي كتابها تقفز المؤلفة المصرية سماء سليمان إلى الأمام 34 شهرا منذ اغتيال الحريري، لتصل إلى اغتيال رئيسة وزراء باكستان بنازير بوتو، في 27 ديسمبر 2007، حيث “لم يلق اهتماما من قبل مجلس الأمن مشابها للذي لقيه اغتيال الحريري بالرغم من أن التشابه في طريقة الاغتيال والظروف السياسية التي صاحبته لا تعطي أي تبرير لمعاملة مختلفة”.

ولم تقل المؤلفة إنه كما توجد عدالة انتقائية يفرضها المنتصرون، فإن هناك أيضا حماسة انتقائية للقصاص لضحية دون أخرى.

عدالة المنتصرين

تاريخ جرائم الحروب والإبادة الجماعية والاستعباد والتهجير والتطهير العرقي هو نفسه تاريخ الصراع البشري، وفي التطور الأخلاقي للبشرية بُذلت جهود لإرساء قانون لا يمنح المجرم فرصة جني ثمرة جريمته. وظلت محاولات إقامة عدالة دولية تتقدم خطوة، ثم تقف وتتراجع، إلى أن برزت عام 1945 بدافع من انتصار الحلفاء.

وفي فصل عنوانه “تطور فكرة القضاء الدولي ما قبل وبعد إنشاء المحاكم الجنائية الدولية” يبدو التقسيم الزمني والجغرافي خاضعا لمركزية أوروبية جعلت حربين بين أطراف أوروبية استعمارية حربين عالميتين، ولم يكن العالم شريكا أو طرفا في صراعات حملت، بالخطأ والتضليل الغربي، عنوانين هما: الحرب العالمية الأولى، والحرب العالمية الثانية. وراح ضحية الحربين العشرات من الملايين أغلبهم في أوروبا.

استخدمت المؤلفة المصرية سماء سليمان منهج التحليل القانوني في ضوء الموقف السياسي الدولي. وبدأت منذ طفولة تأسيس المجتمعات، مرورا بنشوء العلاقات بين الدول، ولم تتوقف كثيرا أمام رغبة البشرية في إنشاء قضاء دولي، اكتفاء بالإشارة إلى حرص “المجتمعات القديمة” على وضع قواعد حاكمة لسلوك المحاربين، فمصر القديمة أرست قواعد “الأعمال السبعة للرحمة”، لتنظيم تحرير الأسرى، ودفن القتلى. وفي بابل قام الملك بختنصر بمحاكمة سيديزياس ملك يودا المهزوم. وأثيرت في مؤتمر فيينا عام 1815، للمرة الأولى، فكرة إجراء محاكمة دولية لعقاب نابليون على حروبه التي “ارتكب خلالها أبشع الجرائم ضد جيرانه”. ونظرا لعدم وجود قواعد نظرية دولية مستقرة للاتفاق على ماهية جرائم الحرب، ورغبة الحلفاء في عدم المساس بالسيادة الوطنية، فقد انتهى الرأي إلى سجن نابليون ونفيه في جزيرة سانت هيلينا التي مات فيها عام 1821.

وظل طغيان الاعتبارات السياسية على إنشاء محاكمات جنائية دولية حتى الحرب “العالمية” الثانية، انطلاقا من حصانة رؤساء الدول، ولهذا رفضت هولندا تسليم قيصر ألمانيا غليوم الثاني إلى الحلفاء بعد “العالمية” الأولى، وجادلت هولندا بأن جريمته سياسية. ولم ينجح الحلفاء في محاكمته.

المؤلفة المصرية سماء سليمان تستخدم منهج التحليل القانوني في ضوء الموقف السياسي الدولي في كتابها «محكمة لبنان.. بين العدالة والسياسة»

تسجل المؤلفة أن الاعتبارات السياسية أدت “دورا بارزا في عدم محاكمة الأتراك على ارتكابهم لجرائم القتل الجماعي ضد المواطنين الأرمن عام 1915”. وقد نصت معاهدة سيفر عام 1920 بين تركيا والحلفاء على تعهد الحكومة العثمانية بتسليم مرتكبي المذابح؛ لمحاكمتهم في محكمة يشكلها الحلفاء. ولم تتشكل المحكمة؛ لأن معاهدة لوزان عام 1924 “نصت على إعلان العفو الشامل عن جميع الجرائم المرتكبة بين عامي 1914 و1922 في صفقة سياسية مع تركيا”، للحفاظ على الإدارة السياسية الجديدة المنحازة إلى الغرب بقيادة كمال أتاتورك.

في عام 1872 كان الفقيه السويسري موينير أول من نادى بإنشاء تنظيم قضاء دولي، واقترح أن تتشكل المحكمة من خمسة قضاة، يعين المحاربون اثنين منهم، ويعين الثلاثة من قبل دول محايدة. ولم يلق الاقتراح قبولا، ثم كانت اتفاقية لاهاي الثانية عشرة عام 1907 أول تمهيد للمحاكم الدولية. ولكن التاريخ يشهد بأن المنتصرين ينجون من المثول أمام محاكم محلية أو دولية.

فقد كانت قوات الدفاع الألمانية توشك أن تستسلم، فعاجلتها قوات الحلفاء بقصف مدينة درسدن. تم نسف المدينة، وقتل أكثر من 25 ألفا، في سلوك استعراضي ليس له داع؛ فالحرب تكاد تنتهي ومعها أدولف هتلر. وعلى الضفة الأخرى ارتكبت أميركا جريمة إلقاء قنبلتين نوويتين فوق مدينتيْ هيروشيما وناغازاكي، إرضاء لكبرياء عسكرية لخصها الرئيس الأميركي هاري ترومان بقوله “العالم الآن أصبح في متناول أيدينا”. وكانت فرنسا قد وعدت الجزائريين بالاستقلال، وبعد انتهاء الحرب التي شارك فيها الآلاف من الجزائريين في تحرير باريس من الغزو النازي، أنكرت بطولاتهم، وطالبوا بالحرية في مظاهرات سلمية، فلم يتأخر الجيش الاستعماري الفرنسي عن ارتكاب مذابح بلغ ضحاياها 45 ألف شهيد، في مدن قسنطينة وقالمة وسطيف عام 1945.

خلفت الحرب “العالمية” الثانية 14 مليونا من القتلى والجرحى والأسرى، ومعهم الملايين من المشردين والمشوهين، وأسهمت الدعوات إلى معاقبة كبار مجرمي الحرب في إنضاج نصوص وأحكام القانون الدولي. ولا يفوت الدكتورة سماء سليمان مؤلفة الكتاب القول إنه “على الرغم من أن مرتكبي تلك الفظائع والأهوال كانوا من قبل كل من دول المحور والحلفاء، إلا أنه لم يؤخذ في الاعتبار غير جرائم دول المحور”، وتم تجاهل جرائم للحلفاء “تستوجب المحاكمة”، وتضافرت همم المنتصرين لإنشاء محكمتي نورمبرغ وطوكيو. وكان تشرشل وروزفلت وستالين قد عزموا، في مؤتمر يالطا في فبراير 1945، على محاكمة مجرمي الحرب “أمام محكمة دولية عسكرية”، ونصت اتفاقية لندن في 8 أغسطس 1945 على “إنشاء محكمة عسكرية دولية في نورمبرغ لمحاكمة كبار مجرمي الحرب الألمان”، في تطبيق لعدالة المنتصرين.

انتصرت محاكمات نورمبرغ للاعتبارات القانونية، ونسفت مبدأ السيادة في سبيل تحقيق العدالة، وهو ما سيمتد لاحقا إلى زوال الحصانة عن رؤساء الدول، وعدم إعفائهم من المسؤولية الجنائية عن ارتكاب جرائم دولية، وبخاصة بعد انتهاء الحرب الباردة. ففي مايو 1993 أُنشئت محكمة يوغسلافيا، لمحاكمة سلوبودان ميلوسيفيتش عما ارتكبه من جرائم أثناء رئاسته لجمهورية يوغسلافيا الاتحادية، وكان قرار اتهامه بارتكاب جرائم دولية “أول قرار ضد رئيس دولة في تاريخ المحاكم الجنائية الدولية”، وقد توفي قبل انتهاء المحاكمة.

البحث عن الحقيقة ما زال مستمرا
البحث عن الحقيقة ما زال مستمرا

'