محنة الحياة في مدينة تورينو الإيطالية – مصدر24

محنة الحياة في مدينة تورينو الإيطالية

يعتبر تشيزَرِه بافيزِه من أهم الروائيين الإيطاليين، خاصة مع مؤلفه الأشهر «ثلاثية الصيف الجميل»، حيث تمكن من تشييد عالم روائي مدهش بسلاسة العارف بالتفاصيل وهدوئه والملتقط لأدق الحركات التي تخدم فكرته وتكوينه للأحداث والشخصيات. وقد قال عنه مواطنه الكاتب أمبرتو إيكو “كان باقيزِه أحد الكتّاب الأساسيين الذين قرأت لهم في مرحلة الشباب، وقد أثّر فيّ بلا شك، ربما ليس من ناحية الأسلوب، وإنما من ناحية المخيّلة الأدبية”. سحر المخيّلة سمة أساسية في أعمال الكاتب، وهو ما تؤكده روايته “الرفيق”.

يصف الروائي الإيطالي تشيزَرِه باڨيزِه (1908 – 1950) في روايته “الرفيق” محنة الحياة بمدينة تورينو الإيطالية بالنسبة إلى شخص مسالم هادئ، يعاني من المشاكل الوجودية في الفترة الواقعة بين الحرب الأهلية الإسبانية والحرب العالمية الثانية، ويعيش مرحلة من التشرد والضياع، كغيره من مجايليه الذين كان النظام الفاشي قد حاول تدجينهم وإرهابهم لسنوات، ثم بدأ بفقدان سطوته المطلقة على الشعب.

يحاول باڨيزه في روايته، الصادرة عن منشورات المتوسط بترجمة عرفان رشيد، التقاط بوادر التغيير، وتجسيد الصراع الذي يحرك بطله بابلو الساعي إلى ملء الفراغ والنقص الأيديولوجي اللذيْن سببا له الضياع والقلق، وكيف أنه حاول تغيير نفسه وواقعه من خلال التنقل بين عدد من المدن، ولقاء أشخاص مختلفين والتعرف إليهم، واكتشاف شخصيات جديدة تثري عالمه ولا تمنحه أية أجوبة مقنعة بدورها، وكأنها أصداء مصورة لشخصيته نفسها.

ثقة مفتقدة

تشيزره باڤيزه من خلال انتقال بطل روايته إلى روما يعالج جوانب من واقع الحياة والتمزق الوجودي للشباب الإيطالي
تشيزره باڤيزه من خلال انتقال بطل روايته إلى روما يعالج جوانب من واقع الحياة والتمزق الوجودي للشباب الإيطالي

يفتتح باڨيزه الذي وصفه الروائي الإيطالي إيتالو كالفينو بأنه “الإيطالي الأهم، والأكثر عمقا، والأشد تعقيدا في زماننا”، روايته بخبر تعرض آميليو لحادث على الطريق، وكان بابلو برفقة عدد من أصدقائه لقضاء وقت قصير على سفح التل، وكان يعزف لهم من دون أن يشعر بالبهجة، فقد كان مهموما على الدوام، بالعزف برفقة من يدرك ما يعتلج في داخله، بينما لم يكن أولئك الذين رافقهم في تلك الأمسية إلا ثلة من أشباه الصبية الذين يهوون الصراخ بأعلى صوت.

يصف بطل الرواية حاله بعد مكوث آميليو بالمستشفى، بأنه لم يعد لديه من يفصح له عن أسراره، ويفرغ أمامه خباياه، ولم تكن زيارة آميليو مجدية لأنه كان يتأوه ويصرخ بسبب الآلام ليلا ونهارا، ولا يتعرف على أحد من زائريه. وكان بابلو يشعر بوحدة متعاظمة، لكنه لم يخبر أحدا بمقدار وحدته، وشعر بثقل غياب رفيقه آميليو الذي كان يتفهم أطواره الغرائبية.

يقضي بابلو القليل من الوقت في دكان العائلة، يجول وحيدا، ويذهب صوب النهر، يجلس على مصطبة يتأمل العابرين والقوارب التي تعبر مياه النهر، وكان الجلوس تحت أشعة الشمس صباحا يملأه بالارتياح النفسي، لكن يعجز عن تحديد أسباب ضجره، وعن معرفة أسباب الشعور بأنه وحيد مثل كلب سائب، بحسب توصيفه لنفسه، وأنه كان خاليا من الرغبة في التعرف على الأمور التي تخص الآخرين.

يفكر برفيقه آميليو الذي سيعجز عن الجلوس والمشي، وهو الذي عاش من أجل الحركة، وقضى جل وقته طائرا على متن دراجته البخارية، ويتساءل كيف سيمكنه العيش بعد الحادث، وكيف سيحاول التكيف مع ظروفه الجديدة الشاقة. ويبوح بابلو لرفيقه المعطوب بوحدته ووحشته، فيخبره آميليو أن العزف وحيدا لا يدخل البهجة إلى النفس، وأنه محظوظ لأنه ليس مرغما على العزف ليقتات لقمة العيش. ويتكتم على شعوره بالضجر القاتل، وأنه يفضل لو أنه يعزف ويقتات لقمة عيشه من العزف، وأن يقول له بأن العالم واسع وأنه يحلم بالتغيير، ويرغب في أن يجول بأرجائه ويتغير.

يعجز عن منح صديقه الثقة، ويبدو له أنه أكثر جرأة منه، وأكثر تقبلا لواقعه، ولم يتحدث عن الفترة الزمنية التي يتطلبها الشفاء من الإصابة، ولم يشر إلى شيء من موضوع العلاج وفترة النقاهة. كما يبدو له أن شيئا ما حدث في داخله، ولم يعد يستسيغ تلك الصُّحبة، وعليه تغيير مختلف تفاصيل حياته التي باتت رتيبة مملة.

ينقل انطباعات وآراء بعض ممن لا يروقون له من المحيطين به، منهم مثلا شخص اسمه كيلينو الذي كانت له حماقات كثيرة في تلك الأيام، ويصفه بأنه كان من الصنف الذي يلاحق المرء مرددا جملته المعتادة “الليلة سنتسلى ونغرق في الضحك”، ويعتقد أن هذا الصنف قادر على انتقاد الآخرين لأبسط الأشياء، وكان ينتقد بابلو لأنه اشترى القيتارة بأموال أمه بينما كان يمرح ويغني على نغمات عزفه.

سعادة مأمولة

شاب إيطالي يبحث عن نفسه في الآخرين
شاب إيطالي يبحث عن نفسه في الآخرين

كان اقتراب بابلو من ليندا يسبب بعض القلق والأرق له، وكانت معرفته بها تزداد كلما استمع إلى أحاديثها، ويروي كل منهما للآخر أمورا عديدة، وكانا يمزحان كثيرا، لكن لحظة تفكير واحدة بأمر محدد كانت كافية لزرع الرعب في داخله، وهو ألّا يلتقي بها بعد ذك. ولم يكن يعرف أين وكيف تعيش، كانا يمزحان ويمرحان فقط، ويغلقان الأمور، ويشعر معها بالبهجة والمتعة، بالإضافة إلى جانب من تأنيب الضمير لأنه كان يخرج برفقة رفيقه الذي يرقد في الفراش.

تتطور علاقته بليندا التي تخبره بأن يلتفت إلى نفسه، وتراه يمعن التفكير في وجوه الناس وهو يعود إلى بيته، هناك من يعمل، وآخرون عاطلون عن العمل، يتساءل في نفسه ما إذا كان العمل يفيد في شيء عندما يمتلك حمّال وأيّ بائس آخر الوجه ذاته، وما إن كان هنالك فرق بين من لا مكان لديه لينام فيه، ومن يمضي نهاره عاملا في عرض الساحة، يؤكد أنه لا وجود لفوارق كبيرة حين تشتعل الوجوه بالبرد ذاته.

تتناهبه الأفكار والوساوس حينما يمرّ أمام السجن، وفيما كان يلقي نظرة على أسواره الثقيلة، كان يتساءل ما إذا كانت إدارة السجن تقوم بتدفئة الزنازين، ويرى أمامه حافلة كبيرة مغلقة من كل جهاتها، تتوقف أمام البوابة الحديدة الثقيلة، وكان على مقربة منها، ولم يكن قد شاهد من قبل كيف يزجّون الناس في عمق السجن، كما كان يتساءل عن أمور كثيرة تحدث هناك في ذلك الوقت، وظلت الفكرة تدور في خاطره حتى بلغ البيت.

يعترف لرفيق آخر له اسمه لاريو ببعض مما يقضّ مضجعه ويقلق راحة باله، ويفرغ ما في داخله من هموم، كان كالممسوس في ذلك الوقت، أراد أن يعرف ما إذا كان بمقدوره أن يفعل شيئا ما، وبين توديعه لصديقه والشارع الذي مضى فيه، ترك نفسه للخيالات وكان خياله حينها يحمله إلى الغد.

يتخيل نفسه في حالات كثيرة غير قادر على الحركة، مقعدا مثل آميليو، وأنه سيستحيل عليه الخروج من منزله بعد اليوم، يحس بالإحساس ذاته الذي ينتاب المرء حين يغلق عينيه، ويجرب بأنه فقد البصر، يتخيل نفسه سائرا على عكازتين، نصف ميت، يتلمس ساقيه، ويفكر في اليوم الذي كشف فيه آميليو الغطاء عن جسده، وأنه كان سيطرق القيتارة بالجدار لو كان محله، وكان سيحطمها، يودّ لو أنه شخص آخر، وأن يختفي من الوجود.

يلفت الروائي إلى أن انتقال بطل روايته إلى روما كان كاشفا لجوانب جديدة من شخصيته، عاش لحظات استثنائية، ركب على دراجته الهوائية، وكانت خلفه صديقة اسمها جينا، وعبرا معا روما، كان يتملكه إحساس غريب وهو يشاهد شوارعها، وبين تفكيره في السجن واضطراره إلى الرحيل بدت له روما مدينة جديدة، بل بدت أجمل مدن الدنيا. ويتأسف على أن الناس لا يدركون مقدار السعادة التي يحظون بها، وكان ذلك الإحساس بالنسبة إليه يشبه من انتبه إلى أنه كان طفلا في ما مضى، ويقول لو أنني كنت أعرف ما سيحدث لكنت خيّرت أن ألعب. لكن إذا ما صرح له أحد باللعب، لن يعرف أبدا من أين يبدأ.

'