معارضة بلا معارضة في مصر – مصدر24

معارضة بلا معارضة في مصر

يخطئ من يعتقد أن خمول الأحزاب السياسية في مصر يعني عدم وجود معارضة للحكومة وأنها ضمنت راحة بالها على الدوام، فقد ظهرت خلال السنوات القليلة الماضية عناصر جديدة أقوى من الأحزاب ووسائل الإعلام في رفضها لسياسات الحكومة، بما يصعب حصره في فئة تنتمي لليمين أو اليسار أو الوسط بتفريعات كل منها، أو الحديث عن طبقة اجتماعية معينة تقود حركة ممانعة ورفض واحتجاج على بعض التصرفات الرسمية.

ظهرت ملامح هذه المعارضة عبر وسائل التواصل الاجتماعي بلا تنظيم أو اتفاق بين عناصرها التي يزداد نشاطها عندما ترى خطأ في موقف أو تحرك تتبناه الحكومة المصرية، ونجح هؤلاء في أن يستثمروا ما يعرف بـ”الكتلة الحرجة” في المجتمع التي يغلب عليها الوعي والصمت، ويمكنها أن تتفاعل فجأة مع ما تراه يستحق التفاعل.

أصبحت هذه المعارضة أقوى تأثيرا من الكتائب الإلكترونية المدفوعة من جماعة الإخوان، وجعلت الأولى الحكومة تعيد النظر في قوانين وتوجهات تبنتها مؤخرا، ولعل قضية إزالة مقبرة الأديب الراحل طه حسين ونقل رفاته التي لفتت انتباه الرأي العام هي دليل على قوة المعارضة الافتراضية وحجم الضغوط التي تمثلها.

اضطرت الحكومة إلى نفي القرار الخاص بالإزالة والنقل بعد تصاعد حدة المعارضة حول ما تردد بشأن نية الحكومة بناء جسر يمر بالمكان الذي تقع فيه المقبرة، وكان يمكن أن يمر تنفيذ المشروع مرور الكرام لو أن هذه المعارضة لم تكن موجودة أو أن أحدا لم يلتفت إلى التعامل مع الموقف بجدية أو أن المقبرة لا تهم شخصية عامة في حجم طه حسين ووزنه وقيمته.

 

 يمكن للحكومة نزع فتيل شرارة المعارضة بلا معارضة من خلال التمهل في إصدار القرارات وتوفير الأسباب التي دفعتها إليها

ملأت المعارضة الشعبية على مواقع التواصل مساحة فارغة تركتها المعارضة السياسية، طوعا أو قهرا، ووجدت الحكومة نفسها أمام عناصر يصعب القول إنها تنخرط ضمن تنظيم معين أو لها أهداف مشبوهة، وأدى التجاوب مع الكثير من المواقف إلى منح هذا النوع من المعارضة قوة يمكن أن تتزايد في الفترة المقبلة.

تستطيع الحكومة القول إنها ديمقراطية والدليل استجابتها السريعة للضغوط وقدرتها على امتصاص الغضب الواسع والانحناء للعواصف، ويمكنها أيضا استثمار هذا الزخم في تأكيد حرصها على الصالح العام حيث تتراجع عندما تجد هناك ضرورة للتراجع، غير أن الاستجابة والاستثمار قد يفتحان عليها أبوابا أشد قسوة في بعض القرارات المصيرية التي تتخذها وتعمل على تنفيذها بلا شرح أو تفسير أو توضيح.

نمت المعارضة الافتراضية في ظل غياب المعلومات والتفسيرات الرسمية، فقد كان يمكن تمرير قرار إزالة مقبرة طه حسين بسهولة لو أن الحكومة تعبت قليلا وقامت بشرح خطتها لتطوير المنطقة التي تقع فيها المقبرة وأخرجت القضية بطريقة مختلفة وتؤكد أنها تعتزم تشييد جسر وشق طريق وإنشاء محور مروري سوف يخفف التكدس الكبير في هذه المنطقة، وهناك فئات كانت ستقتنع حتما بحجج الحكومة المنطقية.

يبدي مصريون استحسانهم للتقدم الحاصل في مشروعات الطرق والجسور بعد أن لمسوا ما حققته من سيولة مرورية، حيث ربطت بين مناطق متعددة وسهلت حركة تنقل المركبات ووفرت وقتا ثمينا للكثيرين، كان بإمكانها توظيف الانطباعات الإيجابية التي تولدت لدى المواطنين في مجال الطرق وشرح الأهمية التي يمثلها الجسر الجديد.

تجاهلت الحكومة الدور المؤثر الذي تلعبه وسائل التواصل الاجتماعي، على الرغم من أنها تفاعلت مع الكثير من الانتقادات التي وجهت لعدد كبير من تصرفاتها في السابق، وبات أيّ شخص بإمكانه رفض ما يراه يتعارض مع مصلحته ويمثل ضررا له وللآخرين لأنه يثق بالتكاتف معه، ظالما أو مظلوما، مع استمرار الطريقة الفوقية في اتخاذ القرارات وتطبيق الإجراءات.

وكلما زادت الحكومة من تجاوبها مع حملات الشجب والإدانة ارتفعت حدة المعارضة، خاصة في حالات الغبن الشديد لرمز أو فئة كبيرة من المواطنين.

يعد التراجع فضيلة، لكن ربما تصبح الفضيلة سابقة وفائدتها أكبر، فإذا قدمت الحكومة شرحا للقوانين والتشريعات وآليتها في رفع أسعار السلع والخدمات وغيرها، كان يمكنها تلافي الضجيج الذي يحيط بها، ويظهر بعض تحركاتها في صورة غير مقبولة شعبيا.

بدأ مفهوم المعارضة يتغير في مصر على وقع الشد والجذب بين الحكومة ورواد مواقع التواصل الاجتماعي، فلم يعد الأمر قاصرا على النشطاء الذين تتابعهم المئات من الآلاف وربما الملايين من المصريين، حيث أصبح هناك نشطاء من نوع جديد. نوع يصعب تصنيفه ضمن حزب أو جماعة سياسية، مع هامش كبير للتداخل بين عناصره.

عندما نشبت أزمة مقبرة طه حسين تصدى لها مثقفون انطلاقا من مسؤولياتهم الأدبية والأخلاقية تجاه شخص قدم الكثير للثقافة المصرية والعربية، لكن حملة الرفض استقطبت أشخاصا من خارج دائرة المثقفين، وهو ما يمكن أن يحدث مع الفنانين والصحافيين والمحامين، ومن يعتقدون في وقوع ضرر جراء قرار تبنته الحكومة.

 

 ظهرت ملامح هذه المعارضة عبر وسائل التواصل الاجتماعي بلا تنظيم أو اتفاق بين عناصرها التي يزداد نشاطها عندما ترى خطأ في موقف أو تحرك تتبناه الحكومة المصرية

يؤدي تداخل الشرائح السياسية والاجتماعية والاقتصادية أيضا، ومن ذلك ضغوط رجال الأعمال التي هدفت إلى التراجع عن قرارات بشأن قيود صارمة على الاستيراد من الخارج، إلى أزمة هيكلية داخل الحكومة تجعلها تبدو بعيدة عن نبض الناس ولا تشعر بمعاناتهم، حتى لو كانت الإجراءات التي تتخذها في صالحهم.

يمكن للحكومة نزع فتيل شرارة المعارضة بلا معارضة من خلال التمهل في إصدار القرارات وتوفير الأسباب التي دفعتها إليها، لأن البرلمان الذي تنحصر مهمته الرئيسية في الرقابة على الحكومة لا يقوم بهذه المهمة على أكمل وجه، وهو ما قاد إلى إيجاد شريحة كبيرة ممن يقومون بهذا الدور الخطير.

تفرض هذه الحالة أن يستعيد البرلمان دوره ولا يركن لعملية التفريط، ويمارس الإعلام المهام الموكلة إليه، ما يستوجب أن تعيد الحكومة النظر في دراسة الموانع التي تقف حائلا دون أداء هذين الجهتين لدورهما، كما هو منصوص عليه في الدستور، من زاويتي الرقابة والحريات وفتح المجال العام للأحزاب، فمهما كانت النوايا الحسنة التي تظهر عبر معارضة أقرب للعشوائية سوف تتسبب في حرج بالغ للحكومة.

لم تعد الحكومة منعزلة عن الناس أو يعيش صناع القرار في أبراج عاجية وعلى الشعب السمع والطاعة وتنفيذ الأوامر بلا مناقشة، لأن مواقع التواصل تصعب السيطرة عليها تماما، كما هو الحال في الإعلام التقليدي، ويمكن بسهولة أن تتحول إلى أداة تضاعف من الضغوط الواقعة على الحكومة المصرية التي تواجه تحديات اقتصادية في حاجة إلى المزيد من الالتفاف الشعبي كي تعبر عنق الزجاجة الحالي.

'