معركة لي الذراع بين الغنوشي وقيس سعيد – مصدر24

معركة لي الذراع بين الغنوشي وقيس سعيد

عادت سياسة الهروب إلى الأمام التي تعتمدها الطبقة السياسية في تونس إلى الوضع الانتقالي الذي عاشته ما قبل انتخابات 2019، بدل بناء مؤسسات ثابتة قادرة على إدارة شؤون البلاد.

لا يزال مجلس النواب (البرلمان) في حالة أزمة دائمة وتسيطر على جلساته الصراعات والحسابات الحزبية بدل بناء توافقات تمكن من تمرير قوانين للحد من الأزمة الاقتصادية والاجتماعية، فضلا عن استكمال بناء مؤسسات الانتقال الديمقراطي مثل المحكمة الدستورية، والخروج بمؤسسات أخرى من حالة المؤقت إلى الدائم مثل هيئة مراقبة الإنتاج السمعي والبصري (الهايكا).

وضاعفت مؤسسة رئاسة الجمهورية من التوترات السياسية القائمة في البلاد بدلا من لعب دور الإطفائي الذي يتولى تبريد الخلافات وجمع الفرقاء بمختلف مواقعهم ومواقفهم حول مائدة الحوار مثلما هو الأمر بالنسبة إلى الحوار الوطني الذي دعا إليه الاتحاد العام التونسي للشغل.

وبدل أن يبدأ هذا الحوار بوضع أجندة تقوم على إعطاء الأولوية للملف الاقتصادي والاجتماعي، بدأ القائمون عليه، بما في ذلك مؤسسة الرئاسة واتحاد الشغل، في وضع قائمة للممنوعين من الحوار مثل ائتلاف الكرامة والحزب الدستوري الحر، وربما لاحقا حزب “قلب تونس”.

ولعل وضع الحكومة هو أوضح صورة لسياسة الهروب إلى الأمام، ووضع المصالح السياسية لمختلف الفرقاء على المصلحة الوطنية القائمة على تجميع مختلف الإمكانيات لمواجهة الأزمة الاقتصادية الحادة وتطويق مخلفاتها الاجتماعية.

منذ 2011 تشكلت ثماني حكومات، أغلبها، وخاصة في السنوات الأخيرة، تتم الإطاحة بها دون أن تنفذ البرنامج الذي عرضته أمام البرلمان وصادق عليه. وإذا أخذنا تجارب الحكومات الثلاث الأخيرة بما في ذلك حكومة الحبيب الجملي التي لم يمرّرها البرلمان، فإن الحكومات يتم تجريدها من أي فرص للعمل ووضعها تحت ضغط الخلافات بقطع النظر عن برنامجها والكفاءات التي تضمها والخطط التي تعرضها للخروج من الأزمة.

وتم تشكيل حكومة إلياس الفخفاخ، التي لم تستمر سوى ستة أشهر، تحت الإكراه، فهي أولا رفعت شعارا لها بمنع حزب “قلب تونس” صاحب الكتلة الثانية في البرلمان (قبل انشقاقها لاحقا) من المشاركة في الحكومة لإرضاء رئيس الجمهورية قيس سعيد، وجزء من الحزام الثوري الذي كان يساند ما اصطلح على تسميته بـ”حكومة الرئيس”، وكان الهدف منها الاحتماء بشرعية الرئيس سعيد وشعبيته لفرض نفسها ومنع استهدافها إعلاميا وسياسيا، وخاصة من النقابات.

لكن الحزام الثوري نفسه كان يعيش حالة من الانشقاق والعداء الصامت، ولم يمض وقت على تشكيلها حتى انفجر الخلاف بين حركة النهضة من جهة أولى، التي رفضت أن تشتغل تحت مظلة الرئيس وأن تعامل حزب أقلي في التحالف الثوري، وبين حركة الشعب والتيار الديمقراطي من جهة ثانية اللذين كانا يعتقدان أن مظلة الرئيس ستحولهما إلى لاعب رئيسي ضامن لاستمرار الحكومة، وأن النهضة مجبرة على المسايرة والسكوت.

وانتهت هذه الحسابات إلى سقوط حكومة الفخفاخ، ولم تكن تهمة تضارب المصالح سوى لافتة للتغطية على صراع النفوذ داخلها.

ورافقت الخلافات تشكيل الحكومة التي يقودها هشام المشيشي منذ لحظاتها الأولى، فهي قد تشكلت برئاسة شخص نكرة رفضه رئيس الجمهورية من خارج قائمة أسماء عرضتها الأحزاب، وكان الهدف الأول تحويل المشيشي إلى “وزير أول” تحت إمرة الرئيس سعيد مثلما كان الأمر في عهديْ الرئيسين الراحلين الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي، أي استعادة الحكم الرئاسي على أن يلعب المشيشي دور الوزير الذي ينفذ أوامر رئيس الجمهورية وأفكاره.

لكن إرادة الرئيس سعيد في تطويق مؤسسة الحكومة عبر اختيار شخصية غير معروفة لقيادتها فشلت من البداية لسوء تقدير من مؤسسة الرئاسة ودفعت المشيشي إلى “التمرّد” وتلقفته الأحزاب التي كانت في خلاف مع سعيد ونجحت في جعل المشيشي “مرشح الرئيس” واجهة لصراعها مع مؤسسة الرئاسة.

وكل ما يجري حاليا مع الحكومة هو صدى لذلك الصراع، بالرغم من أن المشيشي يحاول أن يلعب دور رئيس الحكومة التكنوقراط الذي يستفيد من دعم الأحزاب لتنفيذ إصلاحات اقتصادية واجتماعية عاجلة.

وبقطع النظر عن مواصفات المشيشي وهل هو قادر على إدارة الملفات الداخلية والخارجية، فإن الرجل سعى إلى التفكير من خارج الصندوق، وعمل على كسب رضاء مؤسسة الرئاسة وكذلك البرلمان والكتل المختلفة، لكن قرار إسقاط الحكومة تم اتخاذه من البداية من الفريق الذي خسر السيطرة على الحكومة (مؤسسة الرئاسة وأحزاب الحزام الثوري)، مثلما سبق أن قررت النهضة إسقاط حكومة الفخفاخ وانتهى الأمر كذلك.

وبالنتيجة، فإن ما يقوم به المشيشي الآن من “إصلاحات” و”قرارات” هو محاولة لربح الوقت على أمل استقرار الأمور، لكنه لا يدرك أن معركة لي الذراع ستنتهي بإسقاط حكومته بقطع النظر عن نواياه وبرامجه وأحلامه في التغيير.

وسيكون التعديل الوزاري الذي يلوّح بالإعلان عنه هو بداية الطريق لسقوط الحكومة، ذلك أن خصومه لا ينظرون إلى هذا التعديل كمخرج للأزمة الحكومية أو محاولة لترتيب أمور الحكومة وتجديد الدماء داخلها بإحداث تغيير في الأسماء، ولكن ينظر إليه على أنه رئيس حكومة رهينة لسياسات وحسابات حركة النهضة، وأنه مثلما أطاحت هي بحكومة الفخفاخ، فسيتم إسقاط الحكومة التي تتخفى وراءها.

وأيا كان شكل هذا التعديل فسيظهر في صورة استهداف الرئيس سعيد بالتخلي عن الوزراء المحسوبين عليه، أي أنه سيحسب في معركة لي الذراع بين حركة النهضة ورئيسها راشد الغنوشي ورئيس الجمهورية، فضلا عن أنه يأتي ليقطع الطريق على مبادرة الحوار الوطني التي يطرحها الاتحاد.

ويفترض أن الحوار الوطني سيفضي إلى اتفاق حول قضايا كبرى (اقتصادية وسياسية) ويوكل للحكومة أمر تنفيذها. وحتى تنجح في ذلك لا بد أن تكون حكومة حوار وطني ومدعومة من الأحزاب والمنظمات الاجتماعية (اتحاد الشغل واتحاد أرباب العمل)، فضلا وأساسا تكون مدعومة من الرئيس سعيد.

لكن التعديل الوزاري في هذه اللحظة يظهر أن الهدف منه هو جعل الحكومة خارج أي تفاهمات داخل جلسات الحوار الوطني، وأنها هي من ستتولى تنفيذ مخرجاته بدلا من “حكومة الحوار وطني”، وهو الأمر الذي لن يقبل به الرئيس سعيد واتحاد الشغل و”الحزام الثوري” في البرلمان، إذ لا معنى لحوار يكون مفرغا من آلياته التنفيذية.

وينظر المعارضون إلى حماس المشيشي للتعديل الوزاري، والتسريبات عن كونه سيكون تعديلا واسعا لإظهار أنه لا يستهدف وزراء الرئيس، بأنه مناورة من النهضة لجر خصومها إلى نقاش تفاصيل التعديل وانتقاد هذا الوزير أو ذاك، أو فرض تعديل في القائمة الوزارية، التي لم تعرض بعد وخرجت ضمن التسريبات.

والآن يبدو أن هذا التعديل سيفرض عليه التأجيل لبعض الوقت، أو ربما الإلغاء، بعد نقل المعركة إلى ملعب البرلمان وإعادة تحريك ورقة سحب الثقة من الغنوشي في رئاسة البرلمان للضغط عليه وإظهار أن الفريق الخصم يمتلك ما يكفي من الأوراق لإفشال خطط النهضة.

وبقطع النظر عن جدية سحب الثقة من الغنوشي وفرص نجاح هذه المناورة في ظل تقلب التحالفات، فإنه من الواضح أن المعركة السياسية في البلاد لن تتوقف وستستمر محاولات لي الذراع بين خصوم ينظرون إلى مكاسبهم المباشرة على أنها مكاسب لتونس، وهذا ما يعني أن الأزمة لن تتوقف إذا لم تلجأ البلاد إلى انتخابات رئاسية وتشريعية مبكرة وفق قانون انتخابي جديد، وهذا هو المطلب الرئيسي من الحوار الوطني.

'