مكان واحد يسرد أوجاع وطن بأكمله – مصدر24

مكان واحد يسرد أوجاع وطن بأكمله

قدّم عصر الإنترنت شكلا جديدا للعروض السينمائية الحديثة أو المُستعادة، يتمثّل في وجود عشرات المنصات التي يتابعها مئات الملايين من الناس في العالم من منازلهم. وهو ما حمل مؤشرا لدى البعض على أن حالة الحضور السينمائية بشكلها التقليدي داخل صالات العرض قد انتهت. لكن يبدو أن الأمور لم تحسم بعدُ، على الأقل في سوريا.

دمشق – لا يمكن لفيلم سينمائي كمشروع إبداعي إلّا أن يتجه نحو الجمهور قلّ أو كثر. وهو، أي الجمهور، الشريك الفعلي في هذه العملية الإبداعية التي تبدأ من المُخرج لتنتهي عنده. وعبر مسارها الجمالي الطويل، كان جمهور السينما أحد أكثر وجوهها تألقا. وكثيرا ما تحتفي الأفلام وتسجّل في مذكراتها رصيدها من الجمهور.

وكما في أيّ منجز، تعرّضت علاقة الجمهور بالسينما لاضطرابات، فبات عدده يتناقص لأسباب شتى، وحديثا ومع وجود منصات التواصل الاجتماعي وعروض السينما عبر الإنترنيت، صار حضور السينما بالشكل التقليدي أقل توهّجا. لكن يبدو أن طقس الحضور السينمائي في الصالات لن يندثر، حيث لا يزال الجمهور في كل أنحاء العالم راغبا في مُشاهدة الأفلام داخل القاعات.

وما كان حديثا في سوريا من خلال عروض فيلم “يحدث في غيابك” في عدد من المحافظات يدلّ على أن الأمور لم تحسم بعد لصالح منصات العرض الافتراضي، بل على العكس تماما، فللعرض السينمائي بالقاعات سحره الخاص لدى الفئات الشابة تحديدا، وذلك بالرغم من تناقص عدد الصالات في البلد بشكل مُتسارع في العشريتين الأخيرتين، حتى باتت تقلّ عن العشرة بكل المحافظات السورية.

رسائل عميقة

الفيلم يقدّم رسالة مفادها “ليس لنا إلّا الحبّ”، حيث تتغيّر العلاقة بين خاطف ومخطوفة من خوف وكره إلى ما هو أسمى

في فيلم “يحدث في غيابك” رسالة مفادها “ليس لنا إلّا الحبّ”، فمن خلال تقديم حكاية واقعية جرت أحداثها بمدينة حمص في ذروة مرحلة الحرب، يستعرض العمل حكاية عن صحافي خطفت زوجته وابنه الصغير، فيقرّر خطف طبيبة لمجرّد أنها تنتمي إلى طرف طائفي مُختلف عنه، انتقاما منه على ما وقع لعائلته.

فيكون وإياها في أتون عاصفة من الأحداث المتتالية التي تجعلهما، لاحقا، ضعيفين معا في مواجهة الأخطار.

الصحافي ليس شريرا كما يعرّف نفسه والطبيبة خارج هذه المعادلة كما تؤكّد. لكنهما صارا تفصيلا من تفاصيلها ومتأثرين بها. وبمرور الوقت تتأرجح العلاقة بينهما التي بنيت على الخوف والرغبة في الانتقام إلى ما هو بعيد وعميق، فتنشأ علاقة إنسانية غريبة بين خاطف ومخطوفة. تصير الحياة اليومية لهما مزيجا من القسوة والغرابة ولا يغادر الحذر حياتهما، فالجرح ما زال غائرا.

وعندما تقتل الزوجة يغضب الزوج الخاطف ويقرّر حرق الطبيبة المخطوفة، لكنه ينهار عصبيا عند آخر لحظة. لتأخذ حياتهما بعد ذلك مسارا أكثر هدوءا وإنسانية، حيث تتغيّر ملامح حياتهما من خطف إلى عيش مشترك. فالأبواب صارت مفتوحة، والعيش صار مشتركا في مواجهة مخاطر السلاح، لينتهي مصيرهما إلى علاقة حبّ.

الفيلم الذي كتبه سامر محمد إسماعيل وأخرجه الممثل سيف الدين سبيعي في أولى تجاربه السينمائية، كان من بطولة الفنان السوري يزن الخليل والممثلة اللبنانية رُبى زعرور مع حضور شرفي لكل من جلال شموط وعبدالرحمن قويدر ونور الوزير، والذي دارت كل أحداثه في مكان واحد (بيت مهجور) ضمن ما يصطلح على تسميته بـ”سينما المكان الواحد”، لكنه أتى ثريا بالمعاني والرموز.

السينما لن تموت

"ليس لنا إلّا الحبّ"
“ليس لنا إلّا الحبّ”

ذهبت الجهة المنتجة لفيلم “يحدث في غيابك” إلى تأكيد حضورها على ساحة المتابعة الجماهيرية إلى أقصاها. فبرمجت خطة عروض له شملت تقديمه في ست محافظات سورية.

البداية كانت بدمشق منذ فترة، ثم قدّم بدءا من الرابع من مارس الجاري في مدن حمص وحماة وطرطوس واللاذقية وحلب وستقدّم له عروض، قريبا، في الحسكة ودير الزور والرقة.

تجاوب الجمهور مع عرض الفيلم بشكل متفاوت، وإن كان في معظمه ينحو إلى التطوّر الكمي والنوعي. وما زاد تعلّق الناس به، حالة تفشي وباء كورونا التي فرضت الحجر الصحي فتسبّبت في تعليق عروض الأفلام لمدة قاربت السنة.

فكان عرض الفيلم فرصة تجاوب الناس معها لمشاهدة عمل سوري جديد يقدّم واقعا مأزوما يعيشه الناس يوميا، كما وجد فيه فريق آخر متنفسا لهم كي يقاوموا حالة الفراغ التي تسبّبها الساعات الطويلة من انقطاع التيار الكهربائي بسبب التقنين، فحمل عرض الفيلم ألقا خاصا رحّب به الحاضرون.

سيف الدين سبيعي: الفيلم الجيد والصالة الجيدة لا يزالان رهان الحضور الكبير للجمهور

كانت المحطة الرابعة للفيلم بمدينة حمص، بعد بدء العروض في طرطوس واللاذقية وحماة. وفي قصر الثقافة تقاطر مئات من الأشخاص لمُشاهدة العمل. وكان موجودا قبل ساعة ونصف الساعة من زمن بدء عرضه.

واللافت هنا أن شريحة الشباب هي الأكثر متابعة في حمص وغيرها، فقد حضر جمهور شاب ما زال متمسكا بطقس الحضور السينمائي وخاصة للأفلام السورية. بعض هؤلاء الشباب أعرب لـ”العرب” عن شغفه بحضور السينما وخاصة السورية التي رأى فيها انعكاسا لحياته، فالسينما توثق للكثير من اللحظات الإنسانية العميقة التي يعيشها المواطن السوري في هذه المرحلة. كما حضر عروض الأفلام بعض المتقاعدين والفنانين الذين يتابعون الفن السابع باستمرار.

وقصر الثقافة صرح كبير يقع في مركز المدينة ويتّسع لسبعمئة وأربعين شخصا، لكن الحضور تجاوز الثمانمئة. وبقي عدد مماثل منه خارج الصالة، وبقي عدد مماثل منه خارج الصالة فقرّر أن يحضر في اليوم الثاني بسبب عدم إمكانية مشاهدة الفيلم في اليوم الأول.

جولة الفيلم بالصالات السينمائية وفي العديد من المحافظات السورية، تؤكّد أن الجمهور لا يقاطع صالات السينما كما يرى البعض. فمنصات العرض السينمائية الشرعية والمُقرصنة لم تلغ رغبة الجمهور في متابعة الأفلام السينمائية ضمن الحالة الطبيعية وهي صالة العرض. فما زال حضور الفيلم السينمائي بالطقس الجماعي التقليدي مثار اهتمام ومتابعة من الكثيرين، وما يؤكّد على جدية الأمر هو متابعته بقوة من جيل الشباب.

بعض هؤلاء وجه لهم سؤال عن التفضيل بين حضور السينما عبر الإنترنت أو حضوره في الصالات السينمائية التقليدية. وكانت الإجابة عند معظمهم أنهم يفضلون الحضور في الصالة السينمائية، لأنهم يرون فيها حالة تتميز بحيوية أكثر، حيث يتشاركون الحضور مع عشرات وربما مئات من الأشخاص، وهذا ما يفعّل طاقة الحوار وطرح الأسئلة عند الخروج من الصالة.

وفي تعليق لمخرج الفيلم سيف الدين سبيعي عن كثافة الحضور بجميع المحافظات السورية التي عرضت فيلمه، قال “الفيلم الجيد والصالة الجيدة ما زالا رهان الحضور الكبير للجمهور، وهو ما يحفّزنا للمزيد من الاجتهاد في أعمالنا القادمة كي نكسب جمهور الشباب المتعطّش لسينما تمثّله وتشبهه”.

'