موفق دعبول “عاشق القطبين” الذي سيفتقد السوريون معاييره الأخلاقية – مصدر24

موفق دعبول “عاشق القطبين” الذي سيفتقد السوريون معاييره الأخلاقية

رحل في دمشق قبل أيام الأكاديمي السوري موفق دعبول والذي تمثّل شخصيته نموذجاً أشدّ ما يكون عالمُنا العربي بحاجة إليه، لجهة التنوير والمعرفة والتفاني في أداء الواجب، مع الحرص على تقديم العلم بصوره المتعددة للأجيال الجديدة دون تردّد أو تقصير. وقد نعته جامعة دمشق ومجمع اللغة العربية، معتبرين إياه واحدا من أهم القامات العلمية المرموقة في سوريا.

ولا تزال صورة أستاذنا نورالدين الرفاعي محفورة في الذاكرة وهو في مدرج كلية الهندسة في جامعة دمشق ذاتها، يوم وضع أمامنا مسألة وهو مشمّر عن ساعديه، وقال “هل من مُبارِز؟” كانت المسألة بسيطة، لكنها تحتاج إلى ذاكرة دقيقة تستند إلى قانون معيّن، وقد رأينا أنفسنا، حينها، أطفالا صغارا أمام مربٍّ عظيم، لأن الكلمات التي تبعت ذلك كانت تربوية وأخلاقية بامتياز، حين ذكّرنا بزميل لنا تخرج في الكلية ذاتها اسمه علي طرابلسي كان حينها يواجه المساءلة والاتهام في مجلس الشعب السوري، وكان يومها وزيرا للصناعة. قال أستاذنا إنه يشهد لطرابلسي بنظافة الكف والاستقامة، محذّرا إيانا من الانجرار وراء الاتهام.

شهادة الرفاعي لشخص بالاستقامة أمام المئات من الطلاب في الجامعة جعلتني أتوق إلى معرفته والتواصل معه، إلى أن زرته بعد أكثر من عشر سنين، وهو منهمكٌ في الإشراف على ورش الإعمار في العاصمة دمشق، وكان يومها ينفّذ مشروع “نفق العباسيين”، وحينها اجتمعنا برفقة محافظ دمشق حول طاولة خشبية صغيرة موضوعة في ركن بسيط من أرض المشروع. وبعد أن تكررت زياراتي لطرابلسي، ذكرتُ له رغبتي بإنشاء مؤسسات تعليمية في سوريا، فقال لي دون أي مقدمات “قُمْ معي”، حيث ذهبنا يومها إلى مبنى الجمعية السورية للمعلوماتية في حي المزة ودخلنا إلى مكتب رئيسها الذي كان في ذلك الوقت، دعبول.

في ذلك اللقاء رأيت رجلا على درجة عالية من التهذيب والهيبة، يتحدث بكلمات رصينة، ولا يطرح إلا الأفكار البناءة، مركّزا على الخطوات العملية، وقابلية تطبيقها، ملمّا بموضوع التعليم وأخلاقياته. وهنا رست مراكبي. وعندما وصلنا إلى تكليفه بالأمر أجاب “أنا مستعدٌّ لتولي إدارة المشروع بشرط ألا أتقاضى أي أجر”.

كنت أظنّ أن دعبول يحاول التهرّب، ليكون جهده في تأسيس الجامعة ثانويا، وأن الوقت الذي سيعطيه لن يكون ذا قيمة للمشروع، إلا أن الأيام أثبتت أنه كان يعمل وكأنه يتقاضى أعلى أجر ممكن، وكأنّ المشروع مشروعه الشخصي، وحقيقة كان مشروع التعليم في سوريا كلّها مشروعه.

رحلة العلم

نشاطه الأكاديمي والعلمي لم يعطّل دعبول عن الاهتمام بالشأن العام وحياة السوريين الاجتماعية مبكّرا، ولذلك تم اختياره رئيسا لجمعية رعاية المساجين
نشاطه الأكاديمي والعلمي لم يعطّل دعبول عن الاهتمام بالشأن العام وحياة السوريين الاجتماعية مبكّرا، ولذلك تم اختياره رئيسا لجمعية رعاية المساجين

التعليم هو الأهم بالنسبة إلى الإنسانية، لأن الأذى والإساءة والتخريب وظلم الناس كلها تنبع من فهم سيء ورديء للحياة. وهذا الفهم لا يتشكّل إلا بغياب التعليم الكافي الذي يكفل عدم انحراف الإنسان نحو المسارات الخطرة.

ورجل العلم والتعليم هذا، ولد في حي الميدان بدمشق عام 1936، وسط أسرة ذات ظروف مادية متواضعة، وبتشجيع من والده اتجه نحو العلم، بدلا من احتراف صنعة مما كان جيله يتقنه ومما اشتهرت به المدينة في كل عهودها.

درس في مدارس العاصمة في أربعينات القرن الماضي، وكان دوما يحرز المرتبة الأولى في صفوفه الدراسية، وصولا إلى الثانوية العامة التي نالها عام 1953. ومثلما كان ولعه باللغة العربية شاغلا تفكيره ويومياته، كانت الرياضيات أقرب العلوم إلى عقله غير أنه توجّه إلى دراسة الطب ثم غادرها إلى دراسة العلوم والعمل في التدريس، بعد أن وجد فرصة لنيل شهادة في التعليم الثانوي في الحقل الذي يتقنه جيدا، الرياضيات.

كان يمكن لدعبول أن يواصل حياته معلّما في المدارس الثانوية، مثل عشرات الآلاف من المعلمين الذين زخرت بهم الحياة العامة العربية، لكنه اختار طريقا جديدة. رحل إلى النمسا لدراسة الهندسة الميكانيكية وحصل على الدكتوراه بمرتبة الشرف في ميكانيك السوائل. وسرعان ما تنقلت به أقداره إلى أكثر من مكان في العالم في رحلة التعليم، فسافر إلى ليبيا وغيرها، ليعود وينضم إلى الحقل الأكاديمي معيدا ومحاضرا في جامعة دمشق، إلى أن سمّي رئيسا لقسم الرياضيات. وخلال مساره التربوي، كان يدرك أهمية الفكر العلمي وضرورة ترويجه والاهتمام بإيصاله إلى كل الناس، فتولى رئاسة تحرير “مجلة جامعة دمشق لشؤون البحث العلمي”.

حصانة ضد العواصف

Thumbnail

لم يكن دعبول ممن ينزلقون بسهولة نحو الأوضاع المربكة التي قد تفاجئهم والتي قد تمزّق النسيج الاجتماعي وتفتته. ابتعد عن الصراعات التي كانت تعصف ببلاده، ولم يتورّط في أي اتجاه، بل بقي محافظا على قيمه الخاصة المعتدلة والنزيهة.

في نهاية الثمانينات فكّر دعبول مع قلة من رجال العلم في سوريا، في تأسيس جمعية تواكب التطور الذي بدأ يتدفق على العالم عبر الكمبيوتر، وكانت “الجمعية السورية للمعلوماتية” التي تولى رئاستها. ووضعت تلك الجمعية على رأس أولوياتها “تشجيع البحوث والأنشطة التي تفيد في التعريب والتقييس وتوحيد المصطلحات” إضافة إلى نشر المعلوماتية عن طريق إقامة المحاضرات، الندوات والمؤتمرات العلمية بالتعاون مع الهيئات العلمية المحلية، الإقليمية والدولية ونشر الثقافة المعلوماتية للمجتمع عن طريق البرامج التلفزيونية والمقالات والمجلات والكتب العلمية.

في الواقع أشرفت الجمعية السورية للمعلوماتية على دخول سوريا عصر الإنترنت، وتبنّت مبادرة تعزيز المحتوى العربي على الإنترنت وأقامت شراكات مع مؤسسات ضخمة في العالم، كمؤسسة محمد بن راشد ومشروع الأمم المتحدة الإنمائي وجمعية ميرسي كوربس الدولية. كما أسهمت في التحضير للقمة العالمية لمجتمع المعلومات، محققة حضورا على المستوى الإقليمي والدولي، بصفتها إحدى المنظمات غير الحكومية.

لم يكن دعبول يهدأ، فمع نشاطه الأكاديمي والعلمي ذاك، اُختير رئيسا لجمعية المحدّث الأكبر بدرالدين الحسني، ورئيسا لجمعية رعاية المساجين قبل أن يصدر مرسوم جمهوري بتعيينه عضوا في مجمع اللغة العربية بغرض تمكين اللغة العربية وصيانتها.

ويوم كانت سوريا في فترة ما بين 2000 و2011 تموج بالهدر وتهالك المؤسسات الرسمية، والنفاق الاجتماعي، كان دعبول يتبع طريق الرفق والحكمة حتى مع الذين يختلف معهم. كان واضحا في جميع مواقفه، يحوّل المشكلات الكبيرة إلى صغيرة حين توضع بين يديه، بتحليلها وتبسيط وسائل معالجتها، دون انحياز إلى أي طرف من الأطراف.

التوازن الذي تمتع به كان كفيلا بجعله قادرا على التواصل مع الأطفال والشباب والمسنين، بفضل صفاء داخلي ورضا لا يكاد يصل إليهما إلا القليلون. أما معركة الولاء والأداء التي تعاني منها المجتمعات العربية، فكان دعبول يلخصها بالقول إن “الإخلاص يكون قبل الاختصاص، فالإخلاص عطاء مشروط واحتكار العلم جريمة بحق الإنسانية، وإخلاص بلا اختصاص يعني أن المرء لا يملك ما يعطيه”.

النخبة السورية والتصحّر

الجمعية السورية للمعلوماتية، التي يعود الفضل في تأسيسها إلى دعبول، أشرفت على دخول سوريا عصر الإنترنت، مقيمة شراكات مع مؤسسات هامة في العالم، كمؤسسة محمد بن راشد ومشروع الأمم المتحدة الإنمائي

ترك دعبول الذي يلقّبه السوريون بـ”عاشق القطبين”، أي الرياضيات واللغة العربية، أربعين كتابا في هذين الحقلين، وكان يتقن الإنجليزية والألمانية إضافة إلى تبحّره في العربية، فوضع “معجم الرياضيات المعاصرة” الذي يضم قُرابة 15 ألف مصطلح مع تعريفاتها. وأشرف على إعداد “معجم مصطلحات المعلوماتيّة” الذي يحوي أكثر من 7000 مصطلح إنجليزي – عربي، وطرح “سلسلة الرياضيات المعاصرة” وترجم “موسوعة الرياضيات”. ومن بين مؤلفاته وأبحاثه “اللغة العربية لغة العلم في الماضي والحاضر والمستقبل” و”واقع مادة الهندسة في العالم العربي” الذي قدّمه في تونس عام 1989.

كما جلب من التاريخ العربي المُشرق الكثير مما أسهم في نهضة العالم مثل “الحركة العلمية في عصر ابن البيطار” وكذلك “الحركة العلمية في عصر أحمد بن ماجد”. فعملت تلك الإمكانيات الحيوية على تعزيز موقع دعبول في المشهد السوري، فحصل في العام 2020  على لقب “شخصية العام الثقافية العلمية” نظرا إلى إسهاماته الكبيرة في الثقافة والعلوم.

لقد كانت في سوريا نخبة مثقفة مستقيمة، فنية وتقنية وقيادية، تشكل نسبة لا بأس بها ممكن أن تقود البلاد إلى بر الأمان وإلى دولة حديثة تحمي شعبها من الفوضى والعبث وسيطرة الجهل، وكان دعبول واحدا من تلك النخبة، لكن العمى والتكبّر حوّلا هذه الدولة الصغيرة إلى بحر من الدم والفساد واغتيال الحقيقة. فانتقل الكثير من أبنائها هؤلاء إلى دول العالم المختلفة ورحبت بهم أممُ الأرض.

ليبقى بلدهم فقيرا إليهم، محتاجا إلى كل بصمة يمكن لهم أن يطبعوها على حياة الناس فيه. بلدهم الذي اغتالته ثقافة الكذب المتوارث والغطرسة التي يمنع صاحبها من فعل الخير وتحجب عنه إمكانية اتخاذ القرار الصائب والفهم الحقيقي للحياة ومعانيها، وهذا كلّه منوط بالتواضع والاستقامة والشعور الدائم بالحاجة إلى التعلم والإدراك.

وإن كان لا غنى عن تلك الاستقامة كأسلوب حياة للنهوض بالمجتمع والأخذ بيده إلى الأمن والتنمية والعدل، فإنه لا غنى أيضا عن التعليم للوصول إلى تلك القيم الفاضلة التي تخدم الناس وتؤمّن لهم مستقبلهم، عسى أن يكون في التذكير بأهمية التعليم ورجاله نور في نهاية هذا النفق المظلم الذي يكاد يمتد إلى ما لا نهاية.

 

دعبول لم يكن ممن ينزلقون بسهولة نحو الأوضاع المربكة التي قد تفاجئهم. ابتعد عن الصراعات التي كانت تعصف ببلاده، ولم يتورّط في أي اتجاه
دعبول لم يكن ممن ينزلقون بسهولة نحو الأوضاع المربكة التي قد تفاجئهم. ابتعد عن الصراعات التي كانت تعصف ببلاده، ولم يتورّط في أي اتجاه

 

'