“مَن أكون”.. حيرة المضطربين جنسيا في مجتمع التقاليد – مصدر24

“مَن أكون”.. حيرة المضطربين جنسيا في مجتمع التقاليد

“مَن أكون”.. حيرة المضطربين جنسيا في مجتمع التقاليد

شجاعة في تحدّي المجتمع

يعاني المضطربون جنسياً من مشكلات متعددة في المجتمع المصري، كما كل المجتمعات العربية، ولعل أقلّها أن تغيير الجنس بالنسبة إلى هؤلاء مرفوض باسم العادات والتقاليد والدين، بل إن البعض ينظر إليهم وكأنهم مجرمون.

القاهرة – كان لافتا أن يستقبل الكثير من الناس اعتراف الفنان المصري هشام سليم بتحول ابنته نورا إلى ولد أطلق عليه نور، بالثناء على شجاعته وجرأته في مواجهة مجتمع ما زال يتعامل مع قضية التحول الجنسي باعتبارها وصمة عار، ويصر على أنها قضية أخلاقية لا يجوز التطرق إليها علانية، بحكم أن التطرق إلى الجنس عموما ما زال من المحظورات.

أكدت الواقعة أن احتواء المجتمع، مهما كانت طقوسه وأعرافه وتقاليده، للمتحولين جنسيا لا يمكن أن ينشأ دون دعم عائلي وشجاعة في مواجهة بعض المحرمات التي أصبحت تشبه المقدسات، فتعاطف الناس مع حق ابنة سليم جاء لأن والدها أول من بادر بالخطوة ذاتها.

عندما تُطالع إعلانا لأحد المستشفيات أو المراكز الطبية الخاصة في أي بلد عربي يروج لعمليات تجميل وتصحيح عيوب خلقية وزراعة أعضاء، تضع في الحسبان أن هذه الجراحات معناها الحقيقي التحول من رجل إلى أنثى أو العكس، طالما أن أغلب المجتمعات ترفض الاعتراف باضطرابات الهوية الجنسية، ويلجأ الكثير من الأطباء إلى علاجها بمسميات مقبولة مجتمعيا، كحل وسط قد يوقف التضييق على حقوق هذه الفئة في امتلاك جسد يتعايشون معه ويتعايش معهم دون صراع.

ظلت مريم ابنة العشرين عاما، تتردد برفقة والدتها وشقيقها على العيادة الخاصة لأحد الأطباء النفسيين بالقاهرة، لمدة تجاوزت 12 شهرا، وكانت تعاني من اضطرابات جنسية، ولا ترغب في أن تعيش باقي حياتها كفتاة، وتصر على أن تكون ولدا، ولن تقبل بغير ذلك، والميزة أنها كانت تستقوي بأسرتها في مواجهة النظرة الدونية من محيطها، حيث التحقت بكلية التربية الرياضية لتمارس رياضة عنيفة تسمح بالتلاحم القوي.

قبول المتحولين جنسيا يصطدم بتشدد ديني وموروث ثقافي وتقاليد بالية تضعهم في خانة الشواذ

يتذكر جمال فرويز، استشاري الطب النفسي في مصر، وأشرف على حالة مريم، أن الفتاة كانت دائما تتحدث معه بعقلانية وثبات انفعالي يجبر المستمع على الاقتناع بوجهة نظرها في الإصرار على أنها ولد، وليست أنثى، بحكم أن أسرتها وفرت لها كل الدعم لتساعدها على التعايش مع المجتمع ومواجهته بقوة وشجاعة استثنائية، وتبيّن أنها تعرضت لاغتصاب في سن صغيرة، لذلك قررت أن تكون رجلا، وهو ما تحقق بالفعل، وأصبحت مدربا رياضيا.

قال فرويز لـ”العرب”، إنه استقبل حالات عديدة مصابة باضطرابات في الهوية الجنسية من بلدان عربية مختلفة ترفض عمليات التحول، لكن كانت الميزة في الاحتواء الأسري الذي سهل مهمةَ احتضانِ المجتمع له، فإذا أصر الأب على التعامل مع الابن (أو الفتاة) المضطرب جنسيا بتذمر وعنف وسخرية، فإن ذلك يقود إلى التفكير في الانتحار للانتقام من نفسه وتعذيب المحيطين حوله، ويفكر بطريقة “طالما أقرب الناس يبغضونني، فلا أمان للعيش داخل مجتمع لا يرحم من لم يرحمه أهله”.

دلل الطبيب النفسي على ذلك بواقعة شخصية هشام سليم التي شغلت الرأي العام، وكان هو شخصيا أول من وقف إلى جوارها في الأزمة، حتى تخرج وتواجه المجتمع بالحقيقة مهما كانت النتائج.

واعتاد مضطربو الهوية الجنسية مناقشة المشكلة داخل جدران مغلقة في المنزل أو عيادات الأطباء، خشية العزلة الإجبارية التي يفرضها عليهم المجتمع، فتراهم يذهبون إلى الطبيب خلسة، ويتلقون الجلسات النفسية سرا، قبل حلول موعد التدخل الجراحي.

جدران مغلقة

عزلة سببها رفض المجتمع
عزلة سببها رفض المجتمع

لا يخلو مجتمع من هذه الفئة، لكن تتفاوت نسبة القبول والاحتواء حسب الوعي الثقافي والفكري ومستوى التعليم ومدى نفوذ رجال الدين، وإذا اقتربت من أحدهم لا تسمع منه إلا كلمات حزينة تكشف عن الاكتئاب الحاد الذي وصل إليها، وتراه يبرر دائما موقفه بأنه ليس له ذنب في ما وصل إليه، ولم يختر هذا المسار بمحض إرادته.

تظل أزمة الكثيرين أنهم ما زالوا يتمسكون بالتعامل مع الذين يعانون من اضطرابات جنسية على أنهم شواذ، وتجنبهم ضرورة لتطهير المجتمع من السلوكيات المنحرفة. ومشكلة أصحاب هذا الفكر، أنهم يقتنعون بأن المضطرب جنسيا لديه ميل للتحول إلى الجنس الآخر، دون اكتراث بأنه يتعذب داخليا، وتغييره جنسه هو السبيل الوحيد للعلاج.

قد لا يتخيل البعض حجم الضغوط النفسية التي يعاني منها شخص مفروض عليه التعايش مع جسد ليس جسده، واسم ليس اسمه، وأفراد ليسوا من جنسه، ولا يملك سوى القبول بالأمر الواقع خوفا من التنمر والإقصاء المجتمعي.

هنا تكون الحياة أقرب إلى شبح يطارده في كل مكان يذهب إليه، ولا يجد راحته إلا حين يجلس أمام الطبيب الذي يستمع إليه بهدوء وأريحية وابتسامة تكسو الوجه، وردود فعل تبعث الراحة والطمأنينة.

التقى الطبيب فرويز حالات من هذه الفئة، بينها الذي جاء إليه برفقة أفراد أسرته، ومنهم من قرر أن يسير وحده في مشوار البحث عن الحياة التي تناسبه بعدما وصمته عائلته بأسوأ الصفات وتخلت عنه، يقول فرويز لـ”العرب” “للأسف، نسب تعافي الذين تخلت عنهم أسرهم ضعيفة للغاية، مقارنة بالفئة التي استمدت قوتها وشجاعتها من الأهل في التحول”.

لو حدثت المعجزة، وبدأ المجتمع يتقبل فكرة التحول الجذري للمصابين باضطرابات جنسية، لظلّت هناك معضلات قانونية ترتبط بتقنين أوضاعهم وفق المستجدات التي أصبحوا عليها.

فكم من التعقيدات توضع في طريق حصولهم على فرصة عمل، أو تغيير أسمائهم وجنسهم في السجلات الرسمية، فإذا عبروا النظرة الدونية للمجتمع يصطدمون بقيود حكومية تعاملهم وكأنهم ارتكبوا جرائم أخلاقية.

شروط تعجيزية

التربية السليمة تنتج شخصا يعرف من يكون
التربية السليمة تنتج شخصا يعرف من يكون 

بين معاناة إقناع المجتمع وتخطي التعقيدات الرسمية، تأتي العقبة الأخطر في مشوار هذه الفئة لاختيار مسار الحياة الطبيعي، وهي مواجهة المؤسسات الدينية التي تفرض شروطا تعجيزية لمنحهم صك تحويل الجنس.

لك أن تتخيل أنه في بلد مثل مصر، تنعقد لجان خاصة في مجمع البحوث الإسلامية لمناقشة كل حالة على حدة قبل منح التصديق الديني للفريق الطبي من أجل إجراء العملية الجراحية لتحويل الولد إلى بنت، أو العكس.

وأصبحت قرارات لجنة تصحيح الجنس بنقابة الأطباء المصرية أسيرة الرأي الديني، ولا يمكن أن توافق على منح تصاريح لإجراء جراحات التحول الجنسي دون الحصول على فتوى، إلى درجة أن هناك واقعة شهيرة حدثت منذ عام، رفضت فيها دار الإفتاء التصديق على قرارات إحدى جلسات اللجنة التي تتشكل من أساتذة متخصصين في الطب النفسي وأمراض الذكورة، لأن ممثل الدار لم يكن حاضرا.

ويطلب الأزهر أوراق كل حالة من نقابة الأطباء، ويتم استدعاء الأطباء المتخصصين في المجال لفحصها والتشاور معهم ودراسة كل الجوانب للتأكد من كون طلب الولد أو الفتاة التحول إلى جنس آخر مرتبطا بحالة نفسية أم أن الحالة تستدعي ذلك، ومعرفة ما إذا كانت أعضاء الذكورة أو الأنوثة ليست واضحة في أي اتجاه، ويتم رفض الحالات التي لديها هوى شخصي للتحول، وتصدر الفتوى بالإجماع.

يبدو أن بعض رجال الدين أحد الأسباب الرئيسية التي دفعت المجتمع إلى التعامل مع فكرة الاضطرابات الجنسية وطلب التحول على أنه من الشذوذ، ويبررون ذلك بأن “الله لو كان يريد أن يخلق الولد فتاة لفعل ذلك، لكنه خلق الولد ولدا لأن له حكمة في ذلك، ومن يرغب في التحول فإنه بذلك يعترض على قضاء الله”.

يقود هذا الأمر إلى أن تجاوز عقبة تفهم المجتمع لوجود مرض حقيقي يكون علاجه التحول يتطلب مرونة من المؤسسات الدينية، برفع يدها عن الإدلاء برأيها في مسائل علمية من هذا النوع، أو تصدير خطاب تنويري يزيل الأفكار الرجعية من عقول الفئات المتشددة تجاه ما يرتبط بالجنس والأخلاق والفضيلة، وإقناع الناس بأن هذه الفئة تحتاج إلى دعم مجتمعي تتجاوز به صراعاتها الداخلية.

يرى مجدي بيومي، الباحث المصري المتخصص في علم الاجتماع، أن الوصمة تجاه المضطربين جنسيا وراءها تحريض تحكمه لغة الوصاية على تصرفات وأفعال الناس والتحكم في أدق تفاصيل وقرارات حياتهم الشخصية، وتتطلب معالجة هذا الأمر انفتاحا رسميا يجعل التصرف الأول والأخير للمتخصصين في مجال الطب، بحيث يكون الرأي نافذا، مع حتمية طرح القضية للنقاش العام وتغيير نظرة الناس تجاه المصابين بالتغيرات الجنسية.

ويضيف لـ”العرب”، أن استمرار ثقافة العيب لم تجن على المجتمعات سوى المزيد من الانغلاق والكبت بذريعة الحفاظ على القيم والأخلاق، فلا تزال قضية تدريس الثقافة الجنسية في المدارس من المحظورات بذريعة عدم تفتيح عقول الشباب على أمور معيبة وهم في سن صغيرة، وكي لا تزيد حالات التحرش الجنسي، في حين أن المجتمعات المتحضرة تدرّس نفس الأمر لطلابها، ورغم ذلك تصل معدلات التحرش فيها إلى مستويات متدنية للغاية.

يلعب الجانب الاقتصادي أحيانا دورا في رفض مساعدة الشخص على اختيار الجنس الذي ينتمي إليه، ولا يمكن أن تقبل أسرة أن يتحول ابنها الوحيد من ولد إلى فتاة خشية مشاركة باقي أفراد العائلة في الميراث، بحكم أن الشريعة الإسلامية تعطي أخوات الأب الحق في أن يكونوا شركاء في التركة لو لم ينجب ذكورا.

تقديس العادات

تحرّر من رأي الآخر
تحرّر من رأي الآخر

بغض النظر عن إمكانية دخول الشق الاقتصادي عائقا أمام قبول العائلة لتغيير الجنس، فإن هناك عراقيل أخرى تمنع الآباء والأمهات من الجهر بدعم أولادهم الذين يعانون من اضطرابات الهوية الجنسية، وتكفي قلة الوعي والجهل والفقر والسكن في بيئة تقدس العادات والتقاليد والأعراف وتعتبر هذه القضايا من الفضائح.

ثمة معضلة ترتبط بأن بعض الأهالي ليست لديهم قدرات مالية كافية لإجراء عمليات جراحية لأولادهم المصابين باضطرابات جنسية، ما يجعلهم يتعايشون مع الحالة على وضعها، والأكثر مرارة أن تفكر الأسرة في أن يكون العلاج المجاني هو معاملة الابن أو الابنة بنوع من التنمر والسخرية لإجبار كليهما على التأقلم مع جسده بالضغط على نفسه، والقبول بالأمر الواقع.

أوضح الطبيب جمال فرويز أن بعض الأسر التي تنكر اضطراب الهوية الجنسية ما زالت تصر على اللجوء إلى فكرة التعذيب الجسدي والنفسي للابن أو الابنة، كأحد حلول
الشفاء.

وقد يلجأ الأب إلى تحريض أولاده على ضرب الابن الذي يشتكي من اضطرابات جنسية ويشعر بأنه أنثى، حتى يكون خشنا وعنيفا أو بمعنى أصح “يسترجل”.

علماء الاجتماع يؤكدون أن نمط التربية السيء الذي تستخدمه الأسر مع أطفالها أحد أسباب إصابتهم باضطرابات جنسية

تتعاظم الأزمة عندما يقود التأخير في زيارة الطبيب النفسي إلى كوارث اجتماعية، على رأسها أن ينتحر الشاب أو الفتاة بسبب الفشل في التأقلم مع التركيبة الجسدية والهرمونية، وإن لم يحدث ذلك، فإن هذه الفئة ربما تسير في طريق الانحراف لميلها إلى الجنس الآخر، وشعورها بأن الجميع تخلى عنها ولم يعطها الحد الأدنى من الحق في الحياة، وتختار العيش مع الجنس الذي يناسب صفاتها وتكوينها الجسدي.

يعيب علماء الاجتماع على هذه الأسر أنها ما زالت غير مقتنعة بأن نمط التربية السيء الذي يتم استخدامه مع الأبناء في مرحلة الطفولة أحد أسباب إصابتهم باضطرابات جنسية. فكيف يُفكّر الولد الذي يتعرض للضرب والسخرية والتعذيب من والده بشكل مستمر في التوحد مع الجنس الآخر، كالأم أو الأخت، باعتبارهما رمزا للعطف والحنان
والاحتواء؟

تنجب بعض الأسر بنات فقط، وتتذمر في التربية وتعاملهن أحيانا على أنهن رجال لتعويض نقص إنجاب الذكور، وقد ينتج عن ذلك أن إحدى الفتيات تتأقلم جسديا على أنها شاب، ولا تشعر بملامح الأنوثة مع التقدم في السن، وهي حقيقة لا ينكرها متخصصون في الطب النفسي، بتأكيدهم أن الفتاة مع الوقت تتصرف وتتحدث مثل الرجال، بعدما نشأت على طبيعة تتناقض مع شخصيتها، وعندما يزيد صراعها الداخلي تتغير هرمونات الجسد.

بعيدا عن سلوكيات بعض الآباء في التربية، يظل صراع الأسر التي ساندت أبناءها المضطربين جنسيا وتهجّروا قسرا من أماكن إقامتهم إلى أخرى خشية القطيعة مع الأقارب والمعارف، دليلا دامغا على أن المجتمعات التقليدية لديها مشكلة أبدية مع المتحولين جنسيا، لن يمحوها سوى الاحتواء، طالما أصبح القرار الطبي لإنقاذ حياتهم أسيرا لفتوى دينية، ويصر البعض على محاصرتهم بعراقيل إدارية تكرس صراعهم مع الذات.

'