وداعا بونابرت.. فيلم كرهه الفرنسيون واحتفى به العالم – مصدر24

وداعا بونابرت.. فيلم كرهه الفرنسيون واحتفى به العالم

كل الأسباب والذرائع متوفرة لتجعل من نابليون بونابرت مادة روائية لا تنضب وعلى رأسها السينما التي تناولت هذه الشخصية في العشرات من الأعمال الخالدة وبقراءات متنوعة تصل حد التضارب والاختلاف الحاد، ومن أبرز هذه المحاولات فيلم “وداعا بونابرت” للإسكندراني يوسف شاهين الذي دخل لائحة الكلاسيكيات السينمائية لـمهرجان كان السينمائي الدولي.

فرنسا أحيت الأربعاء 5 مايو، المئوية الثانية لوفاة الإمبراطور القائد نابليون بونابرت (1769 – 1821) في مراسم واحتفاليات استثنائية قل نظيرها. العالم بدوره، شارك فرنسا هذه الذكرى، ووقف عند مآثر ومساوئ هذا الرجل الفاتح المحارب بالسلاح والفكر.

تذكرت البشرية مغامرا كورسيكيا، قصير القامة، متوثب الذهن، كما لم تتذكّر أحدا من قبله عبر التاريخ الذي يكتبه المنتصرون عادة، ثم يتولى قراءته المحللون والكتّاب والفنانون.. كل بحسب موقعه، ومدى قربه أو ابتعاده من طموح هذا القائد العسكري الذي غيّر في الخرائط، ومشروعه الحضاري الذي بدّل من الحقائق فقفز بذلك فوق التاريخ والجغرافيا، حتى شبهه الدارسون بالإسكندر الأكبر، وذلك في مقاربة جائزة ومشروعة تؤكدها قواسم مشتركة تتمحور حول الطموح التوسعي للرجلين وشغف كل واحد منهما بالفكر والمعرفة، بالإضافة إلى أرضية أحداث مشتركة هي مدينة الإسكندرية.

خفايا الآخر

وداعا بونابرت.. دخل لائحة الكلاسيكيات السينمائية لـمهرجان كان السينمائي الدولي

وداعا بونابرت.. دخل لائحة الكلاسيكيات السينمائية لـمهرجان كان السينمائي الدولي

وكان من الطبيعي أن يتلقف سينمائي إسكندراني مثل يوسف شاهين، حملة نابليون على مصر ليحولها إلى فيلم روائي يحاور ويناقش فيه ذلك الحدث الذي غيّر وجه التاريخ وأسس لعلاقة هي غاية في التشعب والجدل والتعقيد بين ضفتي المتوسط.

من غير الطبيعي ألا يتناول شاهين هذا الحدث المفصلي في مصر والعالم العربي.. وهو المنشغل إلى حد الهوس، بكل ما حدث ويحدث في إطار العلاقة مع الآخر، وعلى جميع أبعادها ومستوياتها، فما بالك إذا كانت الأحداث تدور في مصر، وفي الإسكندرية على وجه التحديد، والتي سكنت شاهين في ثلاثيته السينمائية المعروفة، وجعلها بؤرة للعشرات من الأسئلة المتعلقة بالكينونة الوجودية والسياسية والحضارية.

“وداعا بونابرت” شريط سينمائي صنعه يوسف شاهين عام 1985، وشاركه في كتابة نصه مساعده المخرج يسري نصرالله، وهو من إنتاج فرنسي مصري مشترك، وشارك في بطولته ممثلون مصريون وفرنسيون مثل أحمد عبدالعزيز، محسن محي الدين، محسنة توفيق، الشاعر صلاح جاهين والفرنسيان باتريس شيرو في دور بونابرت، وميشيل بيكولي في دور كافاريللي.

يتناول الفيلم الحملة الفرنسية الشهيرة على مصر، والتي قادها نابليون سنة 1798، وتتمحور الأحداث حول عائلة مصرية لديها ثلاثة أبناء تتباين مواقفهم من قوات الاحتلال فينضم أكبرهم إلى المقاومة الشعبية كردة فعل عفوية تمليها قيم الذود عن الأرض وغريزة التوجس من الوافدين والغرباء، ويتعاون الثاني مع الفرنسيين بشيء من الطيبة والحفاوة فيتعلم لغتهم ويحاورهم بدافع الاطلاع والمعرفة من خلال علاقته الحميمة مع أحد جنرالات الجيش الفرنسي، أما الثالث فيقدّر ويثمّن ما للفرنسيين من معرفة لا تتوفر في مجتمعه، ويحاول الاستفادة من ذلك عبر نقلها إلى حركة المقاومة.

الجانب العسكري الميداني في الحملة، لا نكاد نتعرف إليه إلا من خلال مشاهد قليلة متفرقة تشكل مجرد خلفية لعلاقات أكثر غوصا في التفاصيل الإنسانية وتعقيداتها. ويبدو واضحا من خلال الأحداث أن الغاية من الفيلم ليست التوثيق التاريخي والعسكري بقدر ما هي البحث في خفايا العلاقة مع الآخر، والتركيز على معادلة لا تتأسس على منطق ثنائية الرابح والخاسر بالمفهوم الميداني ذي البعد المادي بل على مدى التأثر والتأثير بين فريقين يبدوان للوهلة الأولى على طرفي نقيض، لكن الحقيقة غير ذلك، فالحضارة الفرعونية أسبق تأثيرا ورهبة لدى الجانب الأوروبي، ومع ذلك يجهل الطرف المصري ذلك، فيرتبك بين خيارات متناقضة في استقبال وكيفية التعامل مع هذا الوافد.. وهذا هو السؤال الذي أراد شاهين طرحه متجاهلا منطق الربح والخسارة ومركزا على شيء كان على الطرفين اغتنامه والاستفادة منه وهو: الحوار ولا شيء غير الحوار.

تتضح هذه الفكرة شيئا فشيئا من خلال سير أحداث ووقائع تبدأ بلجوء الخباز سليم وزوجته وأولاده الثلاثة، بكر وعلي ويحيى، إلى القاهرة بعد احتلال إسكندرية عام 1798. تصل الحملة إلى القاهرة وتتم هزيمة المماليك، وذلك في إشارة رمزية إلى انسداد آفاق من يُلاحق في قوت يومه.

حوار لا بد منه

يوسف شاهين: الحدث التاريخي لا يهمني

يوسف شاهين: الحدث التاريخي لا يهمني

الأبناء الثلاثة يمثلون مصائر واختيارات مختلفة في التعامل مع الحدث وكيفية مواجهته فعلي يعمل مع الفرنسيين ويتعلم لغتهم، ويؤمن بالحوار معهم. أما بكر فيؤمن بضرورة الانخراط في المقاومة والمواجهة بالسلاح، ويضع يده في أيدي المماليك المهزومين ورجال الدين المنقسمين على أنفسهم دون دراية كافية بطبيعة الصراع والغاية من هذه المقاومة، بينما تنشأ علاقة صداقة خاصة بين يحيى والضابط الفرنسي كافاريللي المهتم بالعلوم التي نقلتها الحملة.

هذه العلوم والمعارف التي نقلتها الحملة المدججة بآلات الطباعة والكتب والخرائط والعشرات من الخبراء المتخصصين في شتى المجالات، تشكّل بالنسبة ليوسف شاهين، الغنيمة الحقيقية التي فاز بها المصريون في تلك الحرب غير المتكافئة من المنظور العسكري.

وبغض النظر عمّا آلت إليه تلك الحملة من نتائج ميدانية، سقط فيها ضحايا من الجهتين المصرية والفرنسية، وأدت في النهاية إلى اندثار وهزيمة قوات نابليون، فإن الصراع الحقيقي في جوهره، بدا واضحا بين نابليون كقوة عسكرية غاشمة مهما توفر لها من ذرائع سياسية واستراتيجية من ناحية، وبين كافاريللي، العالم الذي رافق قائده، وساير طموحات الجنرال الشاب في حملته أي أن الصراع كان فرنسيا فرنسيا قبل أن يكون بين أصحاب الأرض المصريين، وغزاة فرنسيين قادمين من خلف البحر.

نابليون الذي سميت الحملة باسمه، وقام بدوره بكل براعة الممثل الفرنسي باتريس شيرو، لم يظهر في فيلم يوسف شاهين إلا في مشاهد متفرقة تتخللها سخرية واضحة منه على لسان كافاريللي الذي أدى دوره ميشيل بيكولي، ويرد على نابليون مبتسما، كلما أتى الأخير على سيرة الحضارة ذات الأربعة آلاف عام، وتنظر للفرنسيين من أعلى الهرم، بعبارته الساخرة “ها هو الأحمق يقع في الفخ من جديد”.

وهكذا يفصح المخرج عن نواياه منذ تلك اللقطة التي تستهتر بالبطولة في مفهومها العسكري والبطولي المزيف لدى نابليون، وتعلي من  شأن  الفكر والعلم والثقافة متمثلة في شخص الجنرال كافاريللي. وجاء ذلك على لسان شاهين نفسه معلقا على هذا المشهد “إن هذا الحدث التاريخي لا يهمني بأي حال من الأحوال، ما يهمني هو ما جاء كافاريللي ليفعله في هذه البلاد، لا ما جاء من أجله بونابرت”.

وهكذا يستفيد يحيى من “أعدائه الافتراضيين” وفق فهم العامة، فيتعلم الأساليب العلمية التي أتت بها الحملة وينقلها إلى حركة المقاومة ثم يموت كافاريللي، بعد إصابته في إحدى المعارك، ويعود الفرنسيون إلى بلادهم بعد أن تفشل الحملة بمفهومها العسكري، ولكن.. هل فشلت في سياقها الحضاري كحوار لا بد منه، حتى وإن أتى هذا الحوار تحت أصوات البارود، على وقع أنين الجياع، وبالقرب من برك الدم المتخثر فوق الجثث.

ومهما يكن من أمر، فإنه، وعلى الرغم مما لاقته هذه الحملة من فشل عسكري، بعد أن استعاد العثمانيون والإنكليز السيطرة على مصر، صار التركيز أكبر على المساهمة العلمية والثقافية لهذه الحملة، كما يوضح روبير سوليه، الكاتب والصحافي الفرنسي المصري ومؤلف العديد من الكتب عن الحملة الفرنسية على مصر.. ولعل هذا ما شجع الطرفين الفرنسي والمصري على إنتاج مثل هذا العمل.

جدل عمره قرنان

جاك لانغ: علاقة الفرانكفوني يوسف شاهين بفرنسا متماهية وعميقة

جاك لانغ: علاقة الفرانكفوني يوسف شاهين بفرنسا متماهية وعميقة

بعد هذا المسح الانطباعي السريع لفيلم “وداعا بونابرت”، وما تخلله من تبيان تلك الرغبة الجامحة من شاهين في الاستهتار بقائد الحملة، مقابل  الانتصار لشخص كافاريللي، وما يمثله من عمق إنساني مفرط في حساسيته التي تقارب شخصية صانع الفيلم، خصوصا عبر أبطال “حدوتة مصرية”، “المصير” و”المهاجر”.

وفي هذا الصدد توجه الناقد التونسي خميس الخياطي إلى يوسف شاهين بالسؤال الآتي “عنوان فيلمك هو ‘الوداع يا بونابرت’، ولكن عند قراءة السيناريو كان بالإمكان تسميته ‘أهلا بكافاريللي’، لماذا أهملت قليلا شخصية بونابرت؟”.

وعلى الفور كانت إجابة يوسف شاهين واضحة وصريحة، إذ قال “هذا طبيعي.. فالاستقبال الحسن ليس موجها لكافاريللي فقط بل لكل إنسان لا يأتي إلى بلدي بنية احتلاله”.

 هل يمكن القول إن يوسف شاهين قد “تطاول” على شريكه في المنظومة الفرانكفونية، وتجرأ على واحد من أهم رموز فرنسا الوطنية أم أنه لم يسقط هالة نابليون بل عززها وبرأ لها كل أخطائها بما فيها تلك النزعة العنصرية التي استنهضها لاحتياجات عسكرية بعد أن حضرها ميثاق الثورة الفرنسية؟

وفي هذا الاتجاه، تقول ماريان خوري المنتجة المنفذة لفيلم يوسف شاهين المصري “وداعا بونابرت”، إن حملة نابليون ما زالت “مثيرة للجدل بشكل مفرط”، وأشارت إلى أن الفيلم كان بالنسبة للكثيرين في فرنسا “غير مقبول”، وأثار تساؤلات في فرنسا “كيف يمكن أن يجرؤ شاهين كمخرج عربي على الحديث عن بونابرت وإسقاط هالته؟”.

وتجدر الإشارة إلى أن بونابرت، حين عاد إلى فرنسا، قدّم نفسه باعتباره منتصرا في معركة الأهرامات وأبوقير، قبل أن يستولي على السلطة هناك بانقلاب وبعد أن ترك جيشه في مصر وعهد بقيادته إلى الجنرال جان باتيست كليبر الذي اغتيل عام 1800.

وفي أغسطس 1801، استسلمت القوات الفرنسية بقيادة جاك دومونو، بعد هجوم جديد عثماني بريطاني، لتعود أدراجها إلى بلادها، وتترك جدلا عمره قرنين من الزمان، بين ناقم على الاستعمار الفرنسي وآخر يحمل الجميل لتقدم علمي أحدثته تلك الحملة.

هذا التحفظ وهذا الفتور الذي استقبل به “وداعا بونابرت” في بعض الأوساط الفرنسية المتشبثة بتاريخها القومي، لم يختلف عن نفس الطريقة التي انتقد بها الفيلم لدى النخب العربية المتعصبة للأيديولوجيا العربية، والمعتادة على أعمال موجهة وحماسية على شاكلة “الناصر صلاح الدين”.

بين الفيلمين 22 عاما من الوعي المتراكم الذي من شأنه أن يبدّل القناعات، ويتحرر من تلك النزعة الحماسية والعاطفية التي من شأنها أن تمنع من التطور وتقف حاجزا أمام نقد الذات، وهنا يكون يوسف شاهين قد تحرر من المحاباة وكسب ودّ طرف ضد آخر ضمن موجة استقطاب ثنائي كاد أن يعصف بالقيمة الفنية والإبداعية للسينما العربية. ولعل خير دليل على ذلك اقتران شخصية صلاح الدين بلقب “الناصر” في بداية ستينات القرن الماضي، وكذلك لوم بعضهم وعتابهم ليوسف شاهين حول عنوان فيلمه.

احتكار التاريخ

البشرية تذكرت مغامرا كورسيكيا قصير القامة كما لم تتذكّر أحدا من قبله عبر التاريخ

لو كان فيلم يوسف شاهين يحمل عنوان ” إلى الجحيم يا بونابرت” بدلا من “الوداع يا بونابرت” لاطمأن القلب، فالوداع كلمة لا تُقال عادة إلا لمن كان عزيزا على النفس، فراقه يُعذب القلب ويُضني الفؤاد.

هذا الرأي المتشدد والرافض للفيلم الذي لم يلاق النجاح المنشود في المهرجانات والأسواق العربية، وعلى الرغم من أن علاقة المخرج يوسف شاهين بفرنسا متماهية وعميقة، إلى حد أن صديقه وزير الثقافة الفرنسي السابق جاك لانغ، وصفه بالفرانكفوني الأول عالميا “لشدة وفائه لثقافته المرنة والمتدفقة فرنسيا في كل اتجاه

ومع أي ظرف” كما يقول الناقد محمد حجازي، وعلى الرغم، كذلك، من أن “وداعا بونابرت” قد دخل لائحة الكلاسيكيات السينمائية التي تعتمدها إدارة مهرجان كان السينمائي الدولي، فإنه عندما عرض شاهين موضوع الفيلم على المنتج الفرنسي الراحل قبل سنوات أمبر بالزان، رد عليه “أؤكد لك على أمر سيكرهك الفرنسيون ويحبك العالم”. والواقع أن الفيلم واجهته آراء فرنسية غاضبة خصوصا مع علمهم بأن الفيلم من إنتاج فرنسي، ويقول وداعا لأحد الرموز التاريخية الفرنسية.

الفيلم إذن “اشتكى من ظلم ذوي القربى”، وعلى الضفتين المتقابلتين، مما يقيم الدليل على أن التعصب والانحياز سمتان تهددان كل إبداع إنساني ينطلق مما يحسه الفرد بمعزل عن أي نزعة غوغائية تدعي الدفاع عن أي نزعة غوغائية باسم المجموعة.

يعتبر قسم كبير من النقاد أن ما جاء من أجله بونابرت يمكن التعرف إليه في كتب التاريخ، أما كافاريللي فهو ما يهم سينما شاهين وحده.. لماذا؟ ربما لأن كافاريللي ـ في رأيهم ـ يمثل جانبا من شخصية شاهين، فهو بمحاولته الاندماج في حياة المصريين إنما يحيل إلى شخصية رام في فيلم “المهاجر” وبشخصية جوزف بن جيرار في “المصير”. غير أن شاهين لا يفوته هنا أيضا أن يلقي باللائمة على كافاريللي، ولعله هنا يقارب النقد الذاتي بشكل من الأشكال.

وفي هذا الإطار تكون مهمة تلك العبارات التي يلقيها علي، بعد موت أخيه يحيى وفيما يكون كافاريللي على فراش الموت، آخذا على هذا الأخير أنه إذ جاء ليعلم ويتعلم اقتصر دوره على أن يعلّم، ولم يتعلم حتى ولا لغة القوم الذين أتى ليحبهم ويعيش بينهم.. أليس هذا هو حال يوسف شاهين الإسكندراني الكاثوليكي ذي الأصول الزحلاوية اللبنانية، والذي مات وهو لا يتقن اللهجة المصرية إتقانا جيدا دون تلكؤ؟

صفوة القول إن “وداعا بونابرت” هو أقرب إلى سيرة شاهين من كونه روائيا يرصد حملة نابليون على مصر، وهو أمر يمكن استساغته من زاوية النظر إليه كعمل إبداعي وليس توثيقيا، وذلك على الرغم من أن العمل يمجّد الفردية إلى حد احتكار التاريخ وتجييره لصالح جهة دون أخرى، متناسيا ما كتبه المؤرخ الأميركي كريستوفر هيرولد، في ختام مؤلفه النفيس “بونابرت في مصر” والذي يقول فيه “الرموز الهيروغليفية كانت ستفك حتى ولو لم يكتشف حجر رشيد إلا بعد الحملة بسنوات.. والحملة كانت حماقة كبرى ارتكبها بونابرت، ولو نجحت لما كان لها من نفع سوى زيادة ثراء أغنياء فرنسا على حساب فقراء مصر”.

'