يحدث أن نُدفن في مقبرة الغرباء – مصدر24

يحدث أن نُدفن في مقبرة الغرباء

تقع مدينة جرجيس جنوب شرق تونس. مكان مغمور يغط في النسيان. لا أحد يحتاج إلى أن يضع إصبعه عليه في الخارطة. فجأة يشق ذلك المكان مثل صرخة طريقه إلى الواجهة، بل ويكسر تلك الواجهة.

نقلت الأخبار أن السلطات هناك قامت بدفن عدد من ضحايا أحد مراكب الهجرة السرية في مقبرة الغرباء من غير أن تكلف نفسها معرفة هوياتهم وقد اتضح أن الضحايا الـ18 هم من أبناء جرجيس.

كانت الطريق أمامهم مفتوحة إلى الغربة في بلاد الفرنجة فإذا بالبحر يرفض أن يصل بهم إلى أرض تلك الغربة ويسلمهم إلى أرض لا يقيم فيها إلا الغرباء وحدهم.

مَن يسأل غريبا عن هويته؟

لا يسأل غريب غريبا آخر إلى أين يمضي. ولكن الغرباء إخوة. حسب قول جدنا امرؤ القيس “أجارتنا إنّا  غريبان ها هنا/ وكل غريب للغريب نسيب”.

كان البحر فاصلة بين غربتين.

أيمكن أن يكون البحر شاهدا على شقائنا فيما ندفن رؤوسنا في الرمال لكي لا نرى تلك الأرواح الضائعة وهي تلوح لنا لكي نرمي لها طوق نجاة لا نملكه؟

تلك الموجة هي آخر ما انطبقت عليه أجفان أولئك الغرباء الذين لن يصلوا إلى الأرض فيما كانت أبواب السماء مغلقة في وجوههم وهم الذين قرروا أن يثقوا بأرض أودعوا فيها كل أسباب سعادتهم المؤجلة.

أن يموت المرء غريبا أفضل من أن يحيا غريبا. أن يعيش بين الغرباء أفضل من أن يضع قناعا على وجهه من أجل أن لا يبدو غريبا. ولكن عار الأحياء هو ما يستدعي الرثاء

أما كان عليهم أن يثقوا بالأرض التي شقت أقدامهم طرق البؤس والفقر والتعاسة والحرمان فيها؟ ذلك السؤال المترف يجرح حناجرهم بملحه.

الهاربون من موت بطيء سيعثرون عليه بين رمشة عين وأختها. الصرخة ستغرق معهم فهي الأخرى لن تحظى بطوق نجاة لكي تصل إلى أرض تقع على الجانبين. لا يريد لها أحد أن تصل. يفضل الجميع لها أن تغرق فالإنسانية ليست مركبا للمحبطين ولا دواء لمَن حاصره الموت من كل الجهات.

لا معنى للنجاة فالبحر من ورائكم وليس أمامكم سوى البحر. لا أرض لتستقبلكم. كل الطرق تؤدي إلى السماء التي أغلق الحراس أبوابها.

لنتخيل صيحات الهاربين من الأرض وهي تصطدم ببعضها في لحظة خواء. لا شجرة لتستغيث بخضرتها ولا زرقة لتكون سماؤها مهبط قدم ولا شراع أبيض يكون بمثابة خط الأفق الذي يعلق عليه المغامرون مناديلهم المغمورة بالقبلات والدموع.

سيكون الوعد ساخنا. بدلا من أن تبكي الأسماك من أجلهم مُهدت الأرض لكي يكونوا ضيوفها الأبديين الذين يسقون مصابيحها بزيت أفئدتهم.

أبناء جرجيس عادوا إليها لكن بأرواح الغرباء. فهم بعد أن أعلنوا الحقيقة، حقيقة غربتهم لم يعد في إمكانهم التراجع. ليس لهم سوى أن يمضوا قدما في غربتهم. فالبحر  الذي لا يزال وراءهم هو عدوهم الذي وهبهم الراحة النهائية. راحة البطل الذي هزمه الانتظار. لقد هزمتهم الغربة فقرروا أن يموتوا غرباء من غير أن يحلموا بدمعة إشفاق أو تلويحة يد تقع على النافذة لأم كدها السهر.

آخر المهاجرين غير الشرعيين نحن. ولأن الخزانات امتلأت موتى فإن موتنا لا يستدعي كثير عناء. لذلك لن يسأل أحد أحدا “لمَ هربت؟” ولن يسأله “إلى أين تهرب؟” يعرف أن صاحبه باحث عن السعادة مثله لذلك لن يزعجه وهو يراه محلقا إلى جانبه في السماء. لقد التقت طرقهما وها هما ذاهبان إلى المكان نفسه.

ذلك المكان الذي لن يكونا فيه في حاجة إلى وطن. لا خبز ولا أحزاب. لا أخبار من منظمة الغذاء الدولية ولا البنك الدولي. لا فقه ولا مظاهرات. لا سياسة ولا ثياب ودفاتر مدرسية. لا خوف ولا غد. لا ذئاب ولا حملان. لا زيتون ولا سياحة تدخل من الباب لتخرج من الشباك.

سلم الغرباء أجسادهم إلى البحر. أما كانت أمامهم مصيدة أخرى؟ فئران سماوية هم الآن بعد أن كانوا حشرات في مختبر مدرسي لا يزال في طور الإنشاء. لن يكون البحر أكثر قسوة من حياة، كانوا يعرفون أنها لن تسلمهم إلى الموت إلا بعد شقاء وعذاب طويلين. لن يلومهم أحد لأنهم اختصروا الطريق ذهابا إلى الموت غرباء وإيابا منه غرباء أقل. على الأقل أنهم وجدوا أخيرا وطنا يليق بهم “مقبرة الغرباء”.

أن يموت المرء غريبا أفضل من أن يحيا غريبا. أن يعيش بين الغرباء أفضل من أن يضع قناعا على وجهه من أجل أن لا يبدو غريبا. ولكن عار الأحياء هو ما يستدعي الرثاء.

'