كل طرف لا يأمن للآخر الحلقة الغائبة في لقاءات المصالحة الفلسطينية – مصدر24

كل طرف لا يأمن للآخر الحلقة الغائبة في لقاءات المصالحة الفلسطينية

كل طرف لا يأمن للآخر.. الحلقة الغائبة في لقاءات المصالحة الفلسطينية

الضغوط القوية والتنازلات المتبادلة والرؤية الواضحة عوامل أساسية لوقف الانقسام، والتفاهم على برنامج وطني واضح يعد نقطة البداية للمصالحة.

القاهرة – دفعت نُذر الحرب التي لاحت في سماء غزة مؤخرا إلى تدخل جهات إقليمية ودولية لإقناع إسرائيل وحركة حماس بعدم الانزلاق إلى حرب جديدة، يمكن أن تؤدي إلى تداعيات وخيمة. ولا يعني وقف المناوشات أن شبح الحرب سيظل بعيدا، فقد درج الطرفان على المتاجرة بها للخروج من بعض الأزمات السياسية، وبينها رفض إسرائيل للمصالحة، ومحاولة حماس التملص من التزاماتها.

ويمثل لقاء المصالحة بين الفصائل الفلسطينية، الذي من المرتقب عقده في القاهرة قريبا، حلقة جديدة في سلسلة طويلة من الحوارات التي عقدتها القوى الفلسطينية، أغلبها عُقد في القاهرة، وبعضها استضافته السعودية وقطر ولبنان. وفي جميع الاجتماعات بدا الفلسطينيون متفاهمين، لكن النتائج النهائية أوحت بأنهم اتفقوا على ألا يتفقوا.

لم يحدث المضي في أي اتفاق فلسطيني حتى النهاية. بل تحوّل كل اتفاق إلى غاية في حد ذاته لدى معظمهم، وما أن ينقضي الهدف تعود الفصائل إلى سيرتها الأولى. تتغلب المصالح الحركية على الوطنية، وتتقدم التوجهات الأيديولوجية على الولاءات الفلسطينية. يكشف كل طرف عن مناورات تدفعه إلى الميل ناحية قوى يعلم أنها تريد القفز على القضية لتحقيق أهداف قد تُلحق بها أضرارا استراتيجية.

ملّت الكثير من القوى الوطنية هذه اللعبة، ومنهم من طالب مصر باعتبارها الدولة الوسيط في لقاءات المصالحة، العدول عن التكتيكات السابقة التي ترى في جمع حركتي فتح وحماس في مكان واحد هدفا كبيرا يتعاظم كلما زادت الفصائل التي تجلس حول الطاولة.

رغبة واحدة وأهداف شتى

تقترب الفصائل الفلسطينية من عقد لقاء في القاهرة خلال الأيام المقبلة لاستئناف حوارات المصالحة، بعدما تلقت مصر ردودا إيجابية من حركتي فتح وحماس تشجعها على توجيه دعوة رسمية لهما وباقي الفصائل المعنية للعودة إلى الطاولة مرة أخرى.

انطلقت بعض دعوات المصالحة، أحيانا، من دوافع سياسية آنية، تهمّ مصر أو غيرها من الدول التي رغبت في الدخول على خطوطها. وانطلقت أحيانا أخرى مدفوعة بأغراض تتطلع إليها قوى دولية أملا في تمهيد التربة الفلسطينية أمام طبخة للتسوية السياسية، وتعطلت أيضا لعدم وصول الدوافع والأغراض إلى مرامي كليهما.

وتشير المعلومات التي حصلت عليها “العرب” إلى أن الجولة المنتظرة لإتمام المصالحة الفلسطينية في القاهرة قريبا تسير على الوتيرة نفسها. لم تتغير الأدبيات. ولم تدخل عليها تعديلات جوهرية، حيث تبدو الورقة المصرية أو المقترحات التي ستجتمع عليها الفصائل حصيلة لقاءات منفصلة واستطلاع رأي وجس نبض. حدثت عمليات تبادل وتوافق، وتقديم وتأخير، وحذف وإضافة، لتصبح في النهاية مقدمة لحوار عميق ودقيق.

تأتي الجولة الجديدة منطلقة من رغبة واحدة لدى جميع الأطراف، ربما تختلف الأهداف، لكنها تجتمع حول تخفيف الأضرار التي يمثلها الاستمرار في الطريق الحالي، وهي تحمل خسائر كبيرة للمتحاورين الفلسطينيين والوسيط المصري.

بدأت حركة فتح تخسر من رصيدها في الشارع. وتنهش الخلافات الداخلية في جسدها. وأخفقت لعبة التحدي التي تبناها الرئيس محمود عباس لمواجهة صفقة القرن التي تريدها الولايات المتحدة، في أن تعيد إليه بريقه السياسي المتراجع، بحكم المرض وافتقاد الرشد في التعامل مع غزة، وأوصله انتقامه من حماس إلى فرض عقوبات على الشعب الفلسطيني في القطاع. ناهيك عن تردي علاقته بإسرائيل التي أمعنت في إذلاله سياسيا. لذلك بدت العودة إلى المصالحة كطوق نجاة للسلطة وفتح من كل هذه المحن.

في المقابل، دخلت حماس مرحلة خطيرة من التردي لأنّ رهانها على إضعاف السلطة لم تجن من ورائه المكاسب التي تنتظرها. كما أن مناورتها بورقة التوظيف السياسي لبعض القوى الإقليمية مثل قطر وتركيا وإيران، جلبت عليها محنا كثيرة.

وفشل تودد حماس الخفي لواشنطن واستعدادها للتفاهم مع إسرائيل على هدنة مسلحة طويلة المدى في تمرير صفقة القرن فلسطينيا وعربيا، لذلك وجدت في العودة إلى المصالحة قارب نجاة.

سعت القاهرة إلى حض فتح وحماس للمجيء إليها. والتقت كل طرف على انفراد والوقوف على رأيه لتقريب المسافات. وصلت إلى ورقة (مقترحات) جديدة- قديمة، لكن الإعلان عن تفاصيلها قبل أيام منحها زخما مضاعفا، وأوحت بالجدية والتصميم على تحريك الموقف الذي يؤدي انسداده إلى تمكين قوى إقليمية ودولية من تغيير قواعد اللعبة التي خبرتها مصر وتعاملت مع مفرداتها.

خلافات وتراشقات ومناوشات بين الفصائل، تقود إلى الجلوس حول الطاولة، وأخذ ورد قد ينتهيان بالفشل أو النجاح. في الحالتين تتمسك القاهرة بالقبض على مفاصل مهمة في القضية الفلسطينية، باعتبار أنها تعد محورا مهما في الأمن القومي المصري. تخشى مصر فرض صفقة القرن من قبل الرئيس الأميركي دونالد ترامب، فعمدت إلى سد بعض الثغرات السياسية والاقتصادية التي تستند عليها.

تزامنت الدعوة الأخيرة للقاء الفصائل في القاهرة مع تقديرات جديدة ترى فيها مصر تحولا نوعيا في مركز القضية التي تشغلها منذ العشرات من السنين. رأت أن استثمار بعض القوى في البعد الإنساني خطر داهم على مصالحها، يقود إلى عزل قطاع غزة عن الضفة الغربية تماما ما يحمّلها عبئا سيخلّف وراءه روافد قد يصعب التصدي لها.

قدمت القاهرة تنازلات بشأن التعامل مع معبر رفح، وضاعفت من وتيرة فتحه بعدما كان شبه مغلق. تفاعلت مع خطة إنشاء منطقة للتجارة الحرة مع غزة لتخفيف أزماتها الاقتصادية. وغضّت الطرف عن الكثير من ألاعيب حماس أملا في تدجينها بدلا من لفظها ومنحها مبررات الانحياز لمحور قطر وتركيا.

أفضى التعامل المصري بواقعية شديدة مع الحركة إلى اتهام القاهرة بدعم حماس على حساب فتح. وهو تطور، إن صح، يعد تحولا كبيرا بحكم العلاقة التاريخية التي تربط القاهرة بحركة فتح، وتبني حماس لأفكار إسلامية تناهض المصالح المصرية.

قُدمت في هذا السياق تنازلات عديدة، مع ذلك لا تأمن حماس للقاهرة، والعكس صحيح. لكن حسابات المصالح اقتضت اللقاء عند نقطة واحدة. نقطة فرضت الحوار والتنسيق والتعاون، أمنيا وسياسيا واقتصاديا. وكل طرف يعلم أن الطرف الآخر لا يأمن جانبه.

مطلوب طقوس جديدة

يخرج عدم التفاؤل بنتائج الجولة الجديدة للمصالحة، من رحم عدم وجود ضغوط قاهرة على أي من أطراف المعادلة الرئيسية، أي فتح وحماس. فالأجواء السلبية التي تدفع كل منهما إلى الجلوس على الطاولة لا تمثل ضغطا يجبرهما على القبول بمصالحة استراتيجية، لأن الكثير من القيادات المتصدّرة للمشهد في الحركتين تعلم أن المصالحة ستكبدها خسائر جسيمة. بالتالي، فالمدخل الصحيح يجب أن يتضمن طقوسا جديدة تأتي عن طريقين.

التوجهات الأيديولوجية تتقدم على الولاءات الفلسطينية. ويكشف كل طرف عن مناورات تدفعه إلى الميل ناحية قوى يعلم أنها تريد القفز على القضية لتحقيق أهداف قد تُلحق بها أضرارا استراتيجية

 الأول: قوة الاقتناع بأهمية القبول بمصالحة وطنية، لأن القضية الفلسطينية دخلت مراحل متأخرة من التدهور وفقدان ما حققته طوال العقود الماضية، وجميع الفصائل خاسرة في المستقبل القريب، حتى ولو حققت مكاسب حاليا. ويحيل عدم وجود هذه القناعة لدى فتح وحماس إلى الخيار الثاني، وهو اللجوء إلى قوة ضاغطة تفرض على الطرفين المثول لنداء المصالحة دون مناورات تعيد التفاهمات إلى المربع الصفر بعدما ينتهي هدفها.

درجت القاهرة، ومعها دول عربية فاعلة، على رمي الكرة في ملعب الفلسطينيين، على طريقة “نقبل ما يقبلونه ونرفض ما يرفضونه”. ربما تكون العبارة جيدة ومقبولة عند مواجهة المصير النهائي للقضية، أي على طاولة التفاوض مع إسرائيل وفي حضور وسطاء دوليين، لكن في مرحلة لم الشمل تصبح هذه العبارة من قبيل إبراء الذمة، وهي أيضا لا تخلو من ذلك في حالة تقرير المصير، لكنها تظل مفهومة ومقبولة نسبيا.

تحتاج الفصائل الفلسطينية إلى جملة من الحوافز أو العقوبات، أو الاثنين معا، بما يمثل ضغطا حقيقيا، يدفعها إلى التجاوب مع المصالحة، بلا هروب من الاستحقاقات العملية عندما يأتي أوانها.

تتزامن مع هذا المحدد رغبة حقيقية لتقديم تنازلات متبادلة، من جانب فتح وحماس. في ظل التوازن النسبي بينهما، من حيث القوة والضعف، ومن الضروري أن يتخلى كل طرف عن جزء مما يعتقد أنه مكاسب يصعب التفريط فيها، وأن التشبث بما يرى أنه ثوابت ربما يتحول إلى نكبة على رأس الجميع.

تبقى النقطة المركزية في المصالحة المتعلقة بتبني برنامج وطني يحمل رؤية واضحة لمصير القضية الفلسطينية وسط التعقيدات الراهنة.

في كل المراحل السابقة من الحوارات والاجتماعات والاتفاقات، لم نر برنامجا وطنيا شاملا. كل طرف يحاول تطبيق رؤيته الأيديولوجية على قضية لم تعد تحتمل القسمة، فما بالنا إذا كانت أصلا الرؤية السياسية غائبة؟ وهو ما يفسر عدم قدرة أي من الحركتين على هزيمة الأخرى.

تخلصت جميع حركات التحرر التي حققت نجاحات فعلية في العالم من أزمة الازدواجية، لوجود أكثر من حركة قائدة. في الحالة الفلسطينية لا يزال هذا الداء مستمرا لأجل غير مسمى. لذلك يصبح التفاهم على برنامج وطني واضح نقطة البداية للمصالحة، بعد أن تحولت إلى هدف، وغابت الأهداف التي تنطوي عليها المرحلة اللاحقة.

'